الجمعة، 17 شوال 1445 ، 26 أبريل 2024

أعلن معنا

اتصل بنا

فتنة التصوير والشهرة

أ أ
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook

باسم الله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد :

في أواخر الستينيات الميلادية من القرن الماضي، تنبّأ أحد الرسامين الأمريكيين بظهور وسيط إعلامي يوفر للشخص العادي حلم الشهرة السريع، وعبّر عن ذلك في إحدى مقابلاته بمقولته الشهيرة: "في المستقبل، سيتمكن الجميع من أن يصبحوا مشهورين شهرة عالمية خلال 15 دقيقة فقط" هذا الكلام الذي تنبأ به هذا الرسام قبل ما يزيد عن 60 عاماً ، هو تقريباً واقع قريب من الصحة ، فالمشاهد الآن في واقعنا المعاصر تهافت الكثير من الناس للشهرة ، وبذل الغالي والنفيس للحصول عليها حتى لو كان على حساب الدين والأخلاق والعادات والمرؤة ...والعجيب أن هذه الشهرة الكبيرة قد تُكتسب بمقطع فيديو في أحد وسائل التواصل الاجتماعي فتطير به الأجهزة ، ويتلقفه الناس بلهف ، بل وقد يصير حديث المجالس والمنتديات ، والمواقع وبرامج القنوات ...!  ومن اللازم هنا  ذكر حكم طلب الشهرة والسعي لها ...قبل الكلام عن أمثلة لهذا الواقع .

اضافة اعلان

ففي الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: ((ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسَدَ لها من حرص المرء على المال والشرف لدِينه))، وفي رواية: ((ما ذئبان ضاريان جائعان في غنم افترقت أحدهما في أولها والآخر في آخرها، بأسرع فسادًا من امرئ في دينه يحب شرف الدنيا ومالها))؛ رواه أحمد وصحَّحه الألباني

  • وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لبس ثوب شهرة، ألبسه الله يوم القيامة ثوب مذلة))؛ رواه أبو داود والنسائي، ورجال إسناده ثقات

وروى أحمد عن مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺيَقُولُ : ( إِيَّاكُمْ وَالتَّمَادُحَ فَإِنَّهُ الذَّبْحُ ) صححه الألباني ؛ قال المناوي رحمه الله :" المدح يورث العجب والكبر وهو مهلك كالذبح فلذلك شبه به..."

وروى مسلم عن عَامِر بْن سَعْدٍ قَالَ : كَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي إِبِلِهِ فَجَاءَهُ ابْنُهُ عُمَرُ فَلَمَّا رَآهُ سَعْدٌ قَالَ : أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا الرَّاكِبِ ، فَنَزَلَ فَقَالَ لَهُ : أَنَزَلْتَ فِي إِبِلِكَ وَغَنَمِكَ وَتَرَكْتَ النَّاسَ يَتَنَازَعُونَ الْمُلْكَ بَيْنَهُمْ ؟ فَضَرَبَ سَعْدٌ فِي صَدْرِهِ فَقَالَ : اسْكُتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺيَقُولُ : ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ ) .

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :" الخفي : هو الذي لا يظهر نفسه ، ولا يهتم أن يظهر عند الناس أو يشار إليه بالبنان أو يتحدث الناس عنه..."

وللشهرة آثار كبيرة على صاحبها ــ بغض النظر عن سببها ـ فالمشهور لا يعيش حياته الطبيعية كما يريد ، فحركاته وأقواله وزياراته مرصودة متابعة من الناس ، كما أن كثير من هؤلاء المشاهير وخاصة من اشتهر بلا سبب يستحق ، يعيشون حياة ملأى بالهم والترقب ؛ فإن حب الشهرة داءٌ منصفٌ يفتك بصحابه قبل أن يفتك بغيره؛ حيث يقول الفضيل بن عياض -رحمه الله-: " إنه ما أحب أحدٌ الشهرة والرياسة إلا حَسَد وبَغَى وتَتَبع عيوب الناس وكره أن يُذكر أحدٌ بخير " ومن أعظم آثار الشهرة أن المشهور قدوة يقتدي به الفئام من الناس ، وحينئذ يكون الزلل المشهور عن ألف زلة لما يترتب على ذلك من المفسدة المتعدية، ولقد أحسن من قال:

  العيب في الجاهل المغمور مغمور

                          وعيب ذي الشهرة المشهور مشهور

وفي الحديث ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا)) متفق عليه ؛  والحديث عن الشهرة طويل وكلام العلماء فيه كثير ، وللعلماء تفاصيل فيها ينبغي الرجوع لها ، والشهرة إذا كانت في الخير وتعليم الناس وإرشادهم في أمور دينهم ودنياهم ، والحث على الفضائل والتحذير من الرذائل ، والدعوة لمكارم الأخلاق ، وقواعد المروءة ، هي من العمل العظيم الجليل إذا اقترن بنية صالحة ، وكلامي هنا عن نماذج لشهرة تحصل بما يَخل بالدين أو بالأخلاق والعادات أو بالمجتمع والوطن نحو ذلك ، ولعلي أذكر بعض النماذج لأناس يُحَصلون الشهرة بأمور فيها ما فيها ، فمن ذلك :

  • من يطلب الشهرة بالاستهزاء بالدين ، أو انتقاص حملته...وهذا من أخطر وأقبح أمثلة طلب الشهرة كيف لا والله يقول ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ... ﴾ فالأمر والله خطير خطير ، نسأل الله العفو والعافية
  • ومن أمثلة طلب الشهرة : من يصور محارمه ويخرجهم ويتباهى بهم وهم في كامل زينتهم وإنا لله وإنا إليه راجعون ، وكيف يطيب لمسلم أن يطلب مالا وشهرة وهو يتاجر بإظهار عرضه بلا ذرة من حياء أو غيرة ، وفي الحديث (إنَّ الله يغار، وإنَّ المؤمنَ يَغار، وإنَّ غَيْرة الله أنْ يأتي المؤمنُ ما حرّمَ الله عليهِ) رواه البخاري ؛ويقول الشاعر :

أصونُ عِرضي بمالي لا أدنسه

                           لا بارك اللهُ بعد العرض في المالِ

أحتالُ للمال إن أَودَى فأكسبهُ

                            ولستُ للعرض إن أودى بمحتالِ

  • ومن أمثلة ذلك طلب الشهرة بانتقاص الآخرين وغيبتهم والاستهزاء بهم واستحقارهم وطلب معايبهم والضحك (والطقطقة ) عليهم وتقليدهم ... والله يقول ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ))
  • ومن أمثلة طلب الشهرة تصوير الآباء لأبنائهم وهم في مواقف لا يحسدون عليها ، كمن يصورهم وهم يبكون لمرض أصابهم ، أو أمر طرأ عليهم كهجوم أحد الحيوانات عليهم ، والأدهى والأمر أن يقوم الأب أو الأم بإبكائهم من أجل التصوير ، ومثل ذلك أن يُصور الولد وهو يُقِل أدبه على والديه ويرفع صوته عليهم ، ويخاطبهم بأقبح الخطاب وهم يضحكون وكل ذلك من أجل التصوير!
  • وعكس ذلك تصوير الولد لوالديه وهو يقوم بإغضابهم وإثارتهم ورمي الكلام الذي لا يليق عليهم وكأنهم لم يسمعوا لقوله تعالى ((وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (*) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا))
  • ومن أمثلة ذلك طلب الشهرة بإيذاء الغير من إنس أو حيوان أو طير ... فتجد البعض يصور ضربه أو إهانته لعامل ضعيف أو إنسان مسكين ... وفي الحديث (( الظلم ظلمات يوم القيامة )) وفي الحديث ((عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ في هِرَّةٍ سَجَنَتْها حتَّى ماتَتْ، فَدَخَلَتْ فيها النَّارَ، لا هي أطْعَمَتْها ولا سَقَتْها، إذْ حَبَسَتْها، ولا هي تَرَكَتْها تَأْكُلُ مِن خَشاشِ الأرْضِ))
  • ومن أمثلة ذلك طلب الشهرة بالكذب والتزوير والادعاء الكاذب وفي الحديث ((أنَّ امْرَأَةً قالَتْ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ لي ضَرَّةً، فَهلْ عَلَيَّ جُناحٌ إنْ تَشَبَّعْتُ مِن زَوْجِي غيرَ الذي يُعْطِينِي؟ فقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: المُتَشَبِّعُ بما لَمْ يُعْطَ كَلابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ)) قال الشيخ العباد في معنى الحديث (أي: الذي يستكثر من شيء وهو غير واجد له وغير مالك له، كأن يقول: عندي كذا وليس عنده، مما يترتب على ذلك إيهام السامع بأن عنده قدرة، فيؤدي ذلك إلى أن يتعامل معه بناءً على كلامه الكاذب غير الصحيح... (كلابس ثوبي زور) يعني: أن كلامه وفعله زور، فهو كالمتصف بوصفين ذميمين، وهو أنه لابس ثوبي زور وليس ثوباً واحداً، وهذه زيادة في الإثم، وزيادة في الضرر...). وفي الحديث ((رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أتَيانِي، قالا: الذي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذّابٌ، يَكْذِبُ بالكَذْبَةِ تُحْمَلُ عنْه حتَّى تَبْلُغَ الآفاقَ، فيُصْنَعُ به إلى يَومِ القِيامَةِ)) وما أحرى الكذاب في وسائل التواصل بهذا الوعيد الشديد

وبالجملة فالكلام حول هذا الموضوع متشعب وطويل ؛ ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق كما يقال ، والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا به ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين

فيصل محمد القعيضب

الدلم

8/ 7 / 1444

كلمات البحث
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook