الثلاثاء، 21 شوال 1445 ، 30 أبريل 2024

أعلن معنا

اتصل بنا

شغف الفَن خارجٌ عن القانون

أ أ
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook

متى يعود لكِ شغف الرسم؟ أو لماذا لا نرى لكِ مُشاركات في معارض وفعاليات الفن التشكيلي منذُ سنوات..؟

فأصمت ليسَ لأني واثقةٌ من الإجابة، أو حددت الزمن المُواتي؛ وليس لأن غالبية مَن يوجه مثل ذاك السؤال؛ لا يعرفني حق المَعرفة، ولم يسبق لهم رؤية إنتاجي، وليس لأن مَن طرح السؤال القى بِه كقُنبلة موقوته ..! وليس لأن المثالية وقتها بدأت بتسلقي مِثل أسرابِ نمل كي تمنعني عن الإجابة اللاذعة؛ إنما في الواقع لا أعلم متى قد تنتابني نوبة (اللون) مجددًا ..!

اضافة اعلان

الفن حالة وشغف، ومتاهة لونيه. عالم استثنائي يهبنا فضاءات مُختلفة؛ نستكشف مِن خلالها ما يواري عمق اللا شعور عن الواقع؛ لكي ترسم يجب أن تكون مهوسًا مُتفردًا مِن نوعٍ جديد..! ذاك الهوس الغير مُبرر حد أن تقدس الوانك، وتُقاتل في سبيل الحصول عليها، وإشعال حربًا تافهةً مُسلية تدور أحداثها حول (عِشق لون)..! كما حصل بين (أنيش كابور) و (وستيوات سيمبل) عام ٢٠١٦م، حين آسرت الأول فِكرة (الأسود الأكثر سوادًا في العالم) وروعة كونهِ يُشبه الثقب الأسود في الفضاء ويمتص الضوء بِنسبة ٩٩٪؜ (Vantablack) فاشترى حقوقهُ كاملةً، وحظر استخدامهُ على غيرهِ؛ مِما أثار حفيظة العُصبة الفنية وستيوارت طبعًا الذي ابتدع لونًا جديدًا أسماه (اللون الوردي الأكثر وردية) وآثرا بيعهُ للجميع حول العالم دون (كابور)..! ليمنع كابور استخدام الوردي في كافة أعمالهِ نِكايةً بِه ..!

هذا الشغف اللوني يَخلق مِن الاضطراب شيئًا مُختلفًا ومُتقبلًا، أكثر فتنة، وأكثر حماسةً للفن، وترقب لما يُنتج مِن صَنعةِ الجمال؛ أن تهب ذاتك لحظة (حرية) فوق الجنون على حافة العقل، بأريحية أكثر اتساعًا؛ وإن كانت إلى اللذة أقرب مِنها للمُتعة، يقول (كانظ) قريبًا مِن ذلك: "إننا من أجل أن نميز الشيء إن كان جميلًا أو غير جميل، فإننا لا نُعيد تمثيل الشيء إلى الذهن من أجل المعرفة، بل نعيدهُ بالمخيلة إلى الذات، وإلى الشعور باللذة، أو الألم الخاصين بها " ذاك الشعور بالخيال، واللذة، والألم، والتقاطه مِن الطبيعة والبيئة المُحيطة بشعور المزاج الشخصي للمُبدع تجاهها، وما فيها مِن جوانب خفيةً مَشحونةٌ بالصبغةِ الوجدانية؛ قد يكون بعد خاص مِنْ أبعاد الواقع لا ينكشف إلا للوحة والفرشاة، ولا يفهمهُ غير المتوغل في الجمال حد تصورهِ بشكل مُختلفٍ مُميز وغريب؛ كتجربة رائحة العطر عَن قُرب بُغية تذوق حديقة..! والجمع بين المُتضادات خارج حدود الزمان والمكان، والرائع والمُريع، مُطلقا العنان لخيالهِ الرحب كي يطوف حول مقاصد الفن والألوان، والأشكال أمامه؛ هو توق الغياب عَن الواقع، طاهر حد النقاء، وجميل حتى آخر حدود القُبح.

حين أُمسك بالفُرشاة أحاول التقاط ما تحتويه الطبيعة مِن أسرار لا مُتناهية، مساحةُ للبكاء والضحك، للدهشة وللغموض، بصورة تجعل علامات الاستفهام تتطاير مِثل فراشات النور وتسأل: تُرى ماذا تحتاج اللوحة بعد؟! الأبعاد، الألوان، التصور العام، الظل النسبة والتناسب، الخيال والحُرية، دون قيود اللغة أو أثقال الوزن، أو تأويلات غريبة كما نواجه في الكتابة النثرية والشعر، بل على العكس يُعتبر الخروج وِفق هذا الضياع الغير مُنضبط، والغير موجه، والشذوذ عن قوانين مدارس الفن التشكيلي فنانًا جديدًا في حد ذاته كشذوذ (فان جوخ) بمدرسة ضربات الريشة أو خروج (سلفادور دالي) عن النسق السيراياني السائد في رسم أحلامه وهو ما وصفهُ بقولهِ: "ضياعٌ لذيذٌ ما بين الواقعِ والخيال".. وأجمل الضياع؛ حين نغرق بين الفتنة المُترسخة داخل الحرف وألوان الطيف؛ وفق حالة جمالية وصفها (نيتشيه): "أحب أن أضيع لبعضٍ من الوقت، أنحتُ في متاهةٍ رائعة، وفي الأخير ومن بعيد أعود أدراجي شيئا فشيئًا الي بيتي حتى أعود وأغري ذاتي بذاتي مَن جديد".

إن ثِقل الحالة الفنية والانغماس داخلها يتجسد في وجوب (الانعزال الكُلي) عن العالم..! وانتقاء الجميل وتقصيهِ أي كان مكمنهُ، والانشغال عن الواقع، وتجاوزات البشر، والعيش داخل الذات، مما يسهم في جودة المُنتج الفني وفرادته، ورفع مستوى الجمال حولنا، وترقية الذوق العام للمُجتمع، رغُم ضعف تقدير الإبداع حينًا وصعوبة فهم من يبدع إلا بعد موتهِ حينًا آخر؛ ولكن اليقين داخل الفنان وشغف الفن لا يسمح له بأن يتراجع عن الجمال خطوة واحدةً؛ بل ينمو ويزدهر مع التحديات والصعوبات التي تواجهه. فلا يسأل أحدٌ بعد ذلكَ عن سبب ارتفاع سعر الأعمال الفنية، وزيادة قيمة بعضها عامًا بعض عام؛ فإن ما يهبها قيمتها الفاخرة هو توقيعُ الفنان تحتها، والتاريخ الذي صنعهُ لنفسهِ، وإصرارهِ على أن ما يُصنع يستحق المثابرة والمحاولةَ مرةً بعد مرة مهما واجه من تحديات حياته الاستثنائية.

تهاني ثنيان العايش

كلمات البحث
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook