الجمعة، 09 ذو القعدة 1445 ، 17 مايو 2024

أعلن معنا

اتصل بنا

الصحة وسلوكيات القطيع

أ أ
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook

أثبت العلم والمشاهدة اليومية أن الانجراف وراء سلوكيات غالبية الناس في المجتمع قد يؤدي إلى انهيار أسواق الأسهم، أو إعاقة جهود الإخلاء. وقد تصل في بعض الظروف إلى إلقاء النفس في التهلكة. وأثبتت شواهد التاريخ أن متابعة سلوك الغالبية قد يصل إلى حد التوافق على تأليه مخلوق ورفعه إلى درجة الألوهية.... إلى غير ذلك. وهذه التبعية هي ما يطلق عليه متابعة "سلوكيات القطيع" أو "العقل الجمعي" أو "المطابقة الاجتماعية" وكلها تسميات متشابهة تعني بالأساس موافقة سلوكيات المحيطين وفقدان القدرة على اتخاذ القرار المناسب على افتراض أن من حولهم يعرفون أكثر منهم وتصرفاتهم هي الصحيحة فينصاعون للسلوك السائد دون تفكير.

اضافة اعلان

ومتابعة سلوكيات القطيع أمر شائع الحدوث بين البشر وبين كثير من المخلوقات الأخرى. ومنها الأغنام وغيرها من حيوانات القطيع كالقرود وغيرها. فقد أثبتت متابعة سلوكيات هذه القطعان أنها تتبع ما قد يطلق عليه أيضا "حكمة الجماهير" فالتحركات والأفعال الصادرة عن مجموعات كبيرة منها غالبا ما تتفوق على الخيارات الفردية. وقد أشار علماء النفس إلى وجود روابط أو أنماط اجتماعية محددة لتمرير نفس المعلومات، يفسر ميل الناس أيضا إلى الذهاب إلى اختيارات القطيع حتى لو كانت تلك الاختيارات قد نشأت بشكل عشوائي.

في تجربة شيقة، وضع الباحثون خمسة قرود في قفص فيه سلم يوصل إلى ثمار موز معلقة في سقف القفص. وكلما حاول أحد القرود الوصول إلى الموز رش الباحثون القرود الأخرى بالماء البارد وكرروا ذلك كل مرة. فدفع ذلك القرود الأربعة إلى ضرب القرد الذي يحاول صعود السلم باعتباره السبب في رشهم بالماء البارد. وبعد استبدال أحد القرود بآخر جديد داخل المجموعة وسارع القرد الجديد نحو ثمار الموز انهال عليه الباقون ضربا دون أن يعرف السبب، وكان القرد الأول الذي تعرض للضرب أول من قام بضربه. وافترض الباحثون أننا لو سألنا القردة: لماذا تفعلين هذا؟ فسيكون جوابها: لأن هذا ما يحدث هنا.

وبالرغم من أن سلوكيات القطيع يسهل فهمها أيضا بين البشر، إلا أنها تنطوي على مخاطر كبيرة وتأثيرات سلبية، وقد تكون كبيرة ومؤلمة وبالذات في حالات الكوارث، مثل ما حدث في زلزال شرق اليابان العظيم عام 2011 حين أدت متابعة سلوكيات القطيع إلى اندفاع الحشود بأكملها في أحد المباني إلى أحد الأبواب متابعة للمجموعة التي تحركت أولا نحو ذلك الباب مع أن المخارج الأخرى كانت متاحة.

ويعزى اتباع سلوكيات القطيع إلى الجهل بوجود اختيارات أخرى، أو متابعة للرغبة والهوى، أو بسبب الخوف والاستضعاف والتسليم لإرادة الأقوى والرضى باختياراته. وكثيرا ما يعزى أيضا إلى فقدان القدرة على المواجهة والتحدي والميل للطاعة والانقياد. وقد يوفر متابعة سلوك الآخرين من حولنا الحماية والراحة أو انطباعا بالرضا عن الذات وشعورا بالأمان، أو المحافظة على سمعة جيدة فلا يبدو الفرد غريبا. كما قد يترتب عليه تقليل الجهد وحد أدنى من تحمل المسؤولية باتخاذ قرار فريد.

وقد أظهرت نتائج دراسات أجريت للتحقق من نشاط الدماغ البشري في مثل هذه الحالات أن المشاركين يغيرون اختياراتهم عندما يجدونها تتعارض مع سلوك المجموعة الكبيرة حتى لو كانوا على صواب. وقد كشفت دراسات الرنين المغناطيسي أن التعارض مع معايير واختيارات المجموعة يرفع التوتر والنشاط العصبي في المناطق المختصة بالتكيف السلوكي في الدماغ، ويخف ذلك التوتر مع العودة إلى اختيارات المجموعة مما يجعل الأفراد يغيرون آراءهم وسلوكياتهم للتوافق معها.

ويشرح د. جونا برجر، الأستاذ بجامعة بنسلفانيا ما يدور في أدمغتنا حول "المطابقة الاجتماعية" حيث نتعلّم في سن مبكرة أن نتتبع خطى مجموعتنا ونشعر بالحاجة للانتماء إليها حماية لنا من الاستبعاد، ولنبدو اجتماعيين. وينسب مصطلح «سلوكيات القطيع». إلى عالمين فرنسيين، هما غابرييل دي تارد (1843 - 1904) وغوستاف لوبون (1841 - 1931). صاحب كتاب «سيكولوجية الجماهير»

وفي الشأن الصحي، يحدث القبول بأفكار غير مؤكدة وطرق علاجية غير صحيحة، ويقبل الناس بها لمجرد أنها رائجة. وينطبق ذلك على ممارسات التغذية الشائعة وممارسات النشاط البدني والخمول، والعادات المتبعة في النوم والسهر... إلخ ففي الوقت الذي تنتشر فيه مشكلات النمط المعيشي والتغذية غير الصحية وتنتشر نتيجة لذلك أمراض النمط المعيشي وأمراض الخمول والرفاهية، يجد الأفراد والمؤسسات التي ترغب في عيش حياة صحية تجد نفسها تحت ضغط "المطابقة الاجتماعية" وتجد العائلات أطفالها تحت ضغط الأقران في العائلة والمدارس وفي المجتمع الراضخ لسلوكيات القطيع.

ومن المفارقات أن نجد حتى بعض "المثقفين" والوجهاء بل حتى الأطباء يتابعون المجتمع في سلوكيات الغذاء غير الصحي وسلوكيات الخمول والسهر والعادات المضرة بالصحة ويمارسون حياتهم بنفس الطرق المتبعة في المجتمع فقط لأنهم جزء من المجتمع. وحتى في بيئات العمل الطبي كثيرا ما يتابع الأطباء السائد المعمول به بين أقرانهم والبيئة الطبية التي يعملون فيها بشكل مكرر دون محاولة التفكير. ومن ذلك ما يسود بين الكثيرين من الأطباء من عدم إعطاء أسس التعافي بالنمط المعيشي والتدخلات غير الدوائية في حالات الأمراض المزمنة، في متابعة -مرة أخرى- لممارسات "الوسط الطبي" دون قدر كاف من النقد والمراجعة أو محاولة التفكير "خارج الصندوق" ودون رغبة في التفرد والابتعاد عما يمارسه الآخرون.

وكثيرا ما يواجه أولئك الراغبون في تغيير أنماط الحياة نحو الصحة ضغوطا وتعليقات على غرار "أنت لست وحدك" و "الحياة واحدة" و "لا تعقد نفسك" و "فلها وربك يحلها" كما تواجه الأمهات الراغبات في تغيير سلوك أطفالهن سلوك الأطفال في العائلة وفي المدارس وتواجه رغبة قوية لدى أطفالهن في مجاراة سلوكيات القطيع.

وتشير أبحاث علم النفس إلى أنه من الصعب مقاومة تأثيرات القطيع، وأن الاعتماد على الرسائل التحذيرية لا يقدم حلا سريعا أو سهلا لمواجهة السلوك السائد. وفي المقابل قد تنجح محاولات التغيير والرسائل المتكررة على المدى البعيد لتبنى مقاربات تنتقد الآراء السائدة وتشكك في سلوكيات الآخرين وتكرر التحذير من اتباعهم، مع توفير الحوافز الضرورية إلا أن ذلك يتطلب جهدا كبيرا وإصرارا مستداما. وهو ما جسده هنري فوندا في دوره في فيلم "12 رجلا غاضبا" عام 1957 عندما أصر على وجهة نظره حتى أقنع بها بقية زملائه في هيئة المحلفين بعد معركة شرسة. وهذا مما يشرح صعوبة عمل المصلحين ودعاة تغيير العادات المتعلقة بالصحة والنمط المعيشي، ويرسخ ضرورة استدامة أعمالهم.

وللتغلب على ما ينتشر من مشكلات صحية بسبب متابعة سلوكيات القطيع أفكار من الجدير تأملها، مثل:

• دعم أصحاب الفكر السديد والطروحات المبتكرة ودعم الحوار حولها حتى تتبلور وتصل للمستهدفين • وجود القدوات الحسنة والمبدعين ودعم المسالك الاجتماعية الجديدة التي يطرحونها لأجل السعادة والصحة • البدء في سن مبكرة في سن ما قبل المدرسة وفي المدارس بتلقين الأطفال أسس التفكير الناقد والإبداعي • إظهار العلماء والعلم المبني على نور الكتاب والسنة والانتقاء السليم حول أفضل ممارسات الصحة • دعم المجموعات والجمعيات لدعم السلوكيات الصحية كالمشي والتغذية الصحية لترشيد السلوكيات العامة • استخدام أسس التوعية الصحية المبنية على دعم التفكير الناقد والإبداعي والتفكير خارج صندوق.

ختاما، في عالم تسود فيه صناعة الجهل، وتعلو فيه الأصوات الداعية إلى حياة الخمول والاستهلاك، دافعة لسلوكيات القطيع نحو المزيد والمزيد من الممارسات المؤدية إلى تدهور الصحة العامة، يجدر الإشارة إلى أهمية تحمل الجميع المسؤولية الفردية وجزء من المسؤولية الاجتماعية نحو تحسين اختياراتهم واختيارات المجتمع للسلوكيات السليمة بكل الوسائل الممكنة.

ودمتم سالمين

د. صالح بن سعد الأنصاري

مستشار الصحة العامة وخبير تعزيز الصحة المشرف على مركز تعزيز الصحة بالرياض

كلمات البحث
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook