الجمعة، 10 شوال 1445 ، 19 أبريل 2024

أعلن معنا

اتصل بنا

ألحان خشخشة الأكياس

أ أ
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook

هممت بالخروج فطلبت مني أن أبقى حتى تحضر فلانة، تلك المرأة التي تبهر الجميع في كل مكان تذهب له، لا تشتري إلا أغلى الماركات العالمية ولا تتبضع إلا من محلات تُعنى بصناعة موديل واحد من كل قطعة حتى لا يشبهها أحد في لباسها.

اضافة اعلان

ومما تميزت به أيضاً أنها لا تُكرر ما تلبسه البتة، ولذا أُطلق عليها وصف (أُمّ 365 فستاناً) فملابسها بعدد أيام السنة!

تملكتني الرغبة في لقاء أُم 365 فستاناً، لأحاورها وأسألها: كم تحتاج من الوقت لكي تصل إلى ما يشبعها ويروي عطش تجملها؟

هل لها ميزانية سنوية محددة لذلك أم أنها تشتري كل ما يخطر في بالها دون تخطيط؟

ما الدافع الذي جعل أناقتها أهم اهتماماتها، وأكبر همها ألا يشاركها أحد في كشختها، لتظهر بِطَلّة ساحرة تكاثر بها أترابها؟

أهو نقص في اهتمام الناس بها، وحبهم واحتوائهم واحترامهم لها، فتعوض ذلك النقص بما يبهرهم ويجذب أنظارهم إليها؟!

أم أنها تعاني من فراغ فتظن أنها باتباع صيحات الموضة، والماركات العالمية تعمر وقتها بالمفيد؟!

هل هو نفخ لبالون حاجتها النفسية بهواء الشهرة وحب الظهور وإشباع شهوة الأنا ؟!

أم أم أم ....؟!

في جعبتي الكثير من الأسئلة التي أحببت أن أطرحها عليها، لعلها ترتطم بجدار الحقيقة فتفيق من سُكْر شهوة التسوق، وتكمم معدة استهلاكها فتسد شهيتها المفتوحة للشراء، لكني كنت على موعد آخر فلم أشأ تأخيره، وإلا لحاورتها بما ينقض عُرى مفاصل اهتمامها الذي يودي بها إلى التهلكة كما قال ربنا: { إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ}.

ليست المشكلة في الأناقة، بل إننا - معاشر الإناث - فُطرنا على حب التزين والتجمل منذ نعومة أظفارنا، لكن المشكلة الحقيقية تكمن في التطرف والحيدة عن جادة التسوق، بما يستنزف الأموال، ويأكل ساعات العمر، ويلتهم الطاقات والقدرات، ويدمر الإبداع الذي ينهض بالدول في مصاف المنتجين، ويولد في القلب أمراضا مزمنة: كالكبر والغرور، والحقد والحسد، والتنافس على الدنيا، وينشئ جيلا مصابا بحمّى الاستهلاك، لا يعرف للمال قيمة، ويتخبط في بذله دون فقه لأولويات مصارفه.

صحيح أننا لا نجد (أُم 365 فستاناً) في كل بيت لكنا سنجد على الأقل نسخة ممن يشابهها في التطرف الشرائي، ولا نتوارى خجلاً من الاعتراف بأننا نعيش في زمن قُدست فيه الماديات والشكليات، وراج فيه سوق المفاخرة بالمظاهر، فتنافسوا في عرض ملابسهم ومقتنياتهم على شاشات صفحات التواصل، وبات مقياس قيمة البعض في ماركة لباسه، وشركة حذائه!!

وإذا جلست مع بعضهم وحاورته وجدته فارغ الروح أجوف العقل لا ثقافة، ولا حسن منطق، لا يُتقن إلا لغة كسب المال وتصريفه دون النظر للحاجات أو للأولويات هَمه فقط إشباع شراهة نفسه فإن لم يلجمها فإن لديها القابلية الهائلة لأن تنصب في داخلها صنماً تعبده، فتوالي وتعادي لأجله، كما وصفه رسولنا صلى الله عليه وسلم (( تَعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة )) ثم تظل هذه النفس التي اتخذت إلهها سوقها ولباسها في صراع دائم مع الذين لا يعترفون بقداسة إلههم ومعبودهم!

فهناك من تصلي وذهنها مشغول بالتفكير في موديل فستان زواجها، أو زواج قريبتها تريد أن ترتدي ما يلوي الأعناق إليها !

وهناك من تقترض لتشتري حقيبة من ماركة عالمية !

وهناك من ينقبض فؤادها زمنا لأنها وجدت فلانة من قريباتها تملك تقليداً لساعتها التي اشترتها حين سافرت لفرنسا، وما زاد من كمدها أنها لم تجد فرقاً جلياً بين الأصل والتقليد؟!

وهناك من تستنزف جيب زوجها بهوسها الشرائي حتى لا يجد ما يتزوج به من أخرى، هذا زعمها وما علمت أنه لو أراد الزواج فلن يعيقه عائق.

وهناك من تشتري لأنه وقع في خاطرها بغض النظر عن احتياجها له، ومناسبته لميزانيتها أولا، المهم ألا تكدر خاطرها الذي لا يشبع !

وهناك من تنسى ماذا تقتني، ولو دخل سارق غرفتها وسرق لما شعرت بسبب التكدس، فتشتري ما لا تحتاجه لعله يأتي اليوم الذي تحتاجه .. وتمر السنون ولا يأتي ذاك اليوم !

وهناك من تحدد الحاجة التي خرجت إليها، ثم تعود للبيت مثقلة بالأكياس، مع أنها خرجت لسلعة واحدة فقط !

وهناك من تفرغ مشاكلها وتوترها في ترفها التسوقي، فتهدئ أعصابها وتريح فؤادها سِمْفونيّة ألحان خشخشة الأكياس المحملة بالبضاعة الجديدة!

وهناك مَن في يدها ثقبٌ، وفي حقيبتها شرخٌ يتسرب منه المالُ فما أن يوضع فيه شيء حتى تبادر إلى صرفه دون النظر للمآلات، فيتبخر راتبها الشهري على زينتها قبل انتهاء الشهر!

وهناك من لا يقر لها قرار حين تسمع بنزول بضاعة جديدة في المحل الفلاني فتجدها تسارع للحصول على القطع قبل نفادها !

وهناك من تشاهد على شاشات التلفاز إحداهن ترتدي فستاناً أنيقاً أوعقداً نفيساً، أو تعجبها دعاية ماركة مكياج أو عطر أخّاذ، فتفكر مباشرة في اقتنائه دون تردد، وربما تسارع في ارتداء ملابسها للخروج لشرائه إذا توافرت لديها الظروف أو تقوم بالشراء عن طريق الإنترنت دون النظر لميزانيتها أو عدم احتياجها له، وهل لديها ما يكفي أو أن هذا النوع لا يناسب عمرها أو أن لديها ما يشابهه !

هذه المواقف ونحوها تُغرق النفوسَ في وحْل الترف الشرائي، والبطر التسوقي، وتشلّ حركتها في دروب الإنجاز والتطور، وتوقعها في خطر التدمير والعذاب، وتعرضها لمقت الله وسخطه.

لذا يستوجب قلب مفاهيم التسوق الخاطئة لتتحرر رقاب الأموال من أصابع التبذير، وتُكسر مجاديف الإسراف، ليتولى حسن التدبير قيادة المركبة لشاطئ الأمان، وقد أشار لهذا المعنى ابن الجوزي – رحمه الله - في صيد الخاطر حيث قال: إنما التدبير حفظ المال، والتوسط في الإنفاق، وكتمان ما لا يصلح إظهاره.

ودبِّر أمرك - والله المدبر- في إنفاقك، من غير تبذير، لئلا تحتاج إلى الناس، فإن حفظ المال من الدين؛ ولأن تخلف لورثتك خيرٌ من أن تحتاج إلى الناس.

هذا المعنى البديع الذي أوصى به ابن الجوزي أشار له ابن حجر، عندما شرح حديث "إن الله حرم عليكم: عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال" حيث قال إضاعة المال: الأكثر حملوه على الإسراف في الإنفاق، وقيده بعضهم بالإنفاق في الحرام، والأقوى أنه ما أنفق في غير وجهه المأذون فيه شرعاً سواء كانت دينية أو دنيوية، فمنع منه؛ لأن الله تعالى جعل المال قياماً لمصالح العباد، وفي تبذيرها تفويت تلك المصالح إما في حق مُضيّعها وإما في حق غيره، ويُستثنى من ذلك كثرة إنفاقه في وجوه البر لتحصيل ثواب الآخرة ما لم يفوت حقاً أخروياً أهم منه.

فظاهر قوله تعالى في صفات عباد الرحمن: { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا } أن الزائد الذي لا يليق بحال المنفق إسراف.

من المؤسف أن التسوق في عصرنا أضحى غايةً في حد ذاته بعد أن خرج عن طبيعته كوسيلة نحصل بها على ما نحتاج من أغراضنا الحياتية مما جعل الباحثين يضعوننا - معاشر النساء - تحت المجهر يراقبون رحلات تسوّقنا لتأتي المُحصلة النهاية غريبة، ومحيرة!

فحسب الدراسة التي نشرتها صحيفة «ديلي إكسبريس» والتي أجرتها على 2000 امرأة فإن المرأة البريطانية تمضي 8 سنوات في التسوق، وأكدت دراسة أميركية أن النساء في الولايات المتحدة يشكلن نحو 70٪ من الإنفاق الاستهلاكي، ونحو60٪ منه يتم حالياً عبر الإنترنت، وتنفق نحو 1953 دولاراً سنوياً على مظهرها فقط، في حين تنفق نحو 1100 دولار سنوياً على تناول الطعام خارج المنزل.

وبما أن معظم الدول العربية لا تتوافر بها مثل هذه الدراسات ولكن الظاهرة واضحة للعيان ولا تحتاج إلى تأويل، فقد وصل الأمر لدى البعض إلى حد الإدمان!

ألقوا -لطفاً- نظرةً خاطفة على برامج التواصل خصوصا (السناب والانستقرام) وستُدركوا حقيقة قولي.

فكل مَن لديها هوسٌ شرائي، أو نَهمٌ تسوقي لابد أن تضع نصب عينيها بأنَّ تقاربَ الأسواق وكثرتها وسهولة وصول البضاعة إليها من علامات قُربِ قيام الساعة؛ فلتتأهب لذاك اليوم وتعدّ للسؤال ((عن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه؟)) جواباً يُنجيها من الحسرة، ولات ساعة مندم !

كلمات البحث
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook