الجمعة، 19 رمضان 1445 ، 29 مارس 2024

أعلن معنا

اتصل بنا

خيران والخواجة

أ أ
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook
  كان "خيران" يسكن في الصحراء.. في خيمة تذروها الرياح. يربّي بعض الأغنام ويرعاها بنفسه أو ترعاها زوجته "خيرية".. وذات يوم قرر "خيران" أن يفتتح نشاطاً تجارياً لبيع الماشية في ذات المكان الذي يعيش فيه، لعل ذلك أن يجلب له شيئاً من المال الذي شحّت مصادره، وكثرت مصارفه. لم يكن تجهيز المتجر شاقا، فقد نصب خيران عدة أعمدة خشبية من بقايا احتطابه في الشتاء الماضي، وأحاطها بألواح من هنا، وأغصان من هنا، وبقايا شبك سابق من هناك. ووضع عاملاً على تلك الأغنام، يسقيها ويطعمها نهاراً، ويحرسها ليلاً من اللصوص والذئاب. وحين يأتي المشتري لشراء شيء من الأغنام، كان العامل يصيح بأعلى صوته منادياً صاحب الحلال للتفاوض مع المشتري حول سعر الماعز أو الضأن الذي يريده. سارت أمور "خيران" بشكل جيد، وازدهر سوقه بشكل جيّد، وبات يحقق دخلاً من هذه التجارة، وكان يذهب بين فنية وأخرى للقرية لكي يشتري بعض الأعلاف لإطعام الأغنام حين يقل العشب في المرعى بغية المحافظة على سمنتها وصحتها، الأمر الذي يفضله الزبائن دوماً. وذات يوم، سمع "خيران" أن مندوباً من الحكومة قد مرّ على عدد من المناطق المجاورة، وأنه سوف يمر بمنطقتهم قريباً، وأن ذلك يأتي ضمن مشروع لوزارة التجارة يستهدف تنشيط التجارة الفردية كما يقولون. وكان زبائن "خيران" وضيوفه يتحدثون معه دوماً عن آخر منطقة وصلت لها الوزارة، مؤملاً أن يكون مع المندوب "شرهات حكومية" تخفف شيئاً من مصروفات الأغنام في هذا الصيف القائض. وفي صبيحة يوم صيفي معتاد، سمع "خيران" صوت محرّك سيارة تجتاز الرمال، رآها تقبل عليه من بعيد إلى أن وصلت السيارة ذات الدفع الرباعي إلى خيمته، وترجّل منها سائق بدا متمرساً، ومعه "خواجة" ذو شعر أشقر، وعيون زرقاء، يرتدي بنطالاً وقميصاً وقبعة على رأسه، عرف خيران بعدها أنه مستشار وخبير أجنبي يدعى "جون". كان متخصصاً أمريكياً في مجال تربية المواشي وبيعها - كما يقول السائق المترجم-، وإن كان لم يظهر من لباسه ما يوحي لخيران بذلك. ترجّل الخبيرُ وصافح خيران والبسمة تعلو وجهه، وكان يخبره عن صعوبة الطريق وشدّة الحرّ في هذه المنطقة، وكان السائق هو المترجم بينهما. بدأ الخبير في طرح أسئلته على خيران، حول فكرة المشروع، ودراسة الجدوى، وطلب الاطلاع على خط الإنتاج، وموازنات المشروع، ومؤشرات الأداء، والخطة الاستراتيجية، والكي بي آيز، والنظام المالي، وأدلة الإجراءات، وأسلوب الأرشفة، والسير الذاتية لفريق العمل. وكان الخواجة يحمل معه نماذج مطبوعة على ورق فاخر، ومع كل إجابة يضع علامة × أمام نص إنجليزي بدا غير طويل. كان الاعتذار سيد الموقف، فأكثر مطالب الخبير لا يدري "خيران" ما المقصود بها، وهو يسمع بها لأول مرة، فضلاً عن أن يكون قد عملها. انتقل الخبير والسائق و"خيران" بعد ذلك إلى مكان وجود الأغنام، والتقى بالعامل هناك وقدم له التحية. وبعد نظرة يسيرة على هذا الحوش المتهالك والأغنام التي بداخله والتي لا يتجاوز الثلاثين رأساً، أبدى الخبير تعجّبه من عدم وجود بطاقة تعريفية في أذن كل واحدة من الأغنام توضح عمرها للزبائن! وعدم استخدام الباركود في بيع المنتجات. وعدم وجود نقطة بيع بنكية تسهل للمشترين الذين لا يحملون الكاش لكي يشتروا باستخدام بطاقة ATM أو الفيزا والماستركارد. كما اعتبر أن بيئة العمل التي يعيشها العامل غير محفزة، مقترحاً وجود زي موحد للعمالة، وهوية بصرية للمشروع، ومطبوعات، وموقع إنترنت، وبريد إلكتروني يمكن من خلاله متابعة مشروع التطوير أونلاين. وانتقد عدم توفير كاونتر استقبال للزبائن، وجلسة استراحة لهم لحين اكتمال الطلب، بالإضافة إلى ماكينة للكوفي، وبعض أشجار الزينة التي تحفّز العامل على العمل، وتحفّز المشترين على إعادة الشراء! وتحدّث الخبير كذلك عن الخطط الاستراتيجية، وعن الكثير من الأشياء التي لم يعد خيران يتذكرها، حيث كانت الترجمة نفسها تحتاج إلى ترجمة لتقريبها للفهم. ونسي المستشار الأجنبي أن تجربته وخبرته في بلاده مبنية على مجموعة كبيرة من المدخلات التي يبني عليها مقترحاته وهي ليست موجودة هنا! نسي أنه لا توجد كهرباء في المنطقة. ولا مصممو جرافيك. ولا بنوك. ولا أحد يعرف الكوفي أو يشتريه أو يستسيغه. وأن الماء بالكاد يكفي الرجل وأغنامه وعامله. وأن أشجار الزينة تموت في هذه الأجواء الصحراوية. وأن الزبائن يعرفون أعمار الأغنام من أسنانها فهم لا يقرؤون البطاقات المقترحة. وأن سكن العامل في هذه الخيمة الحارّة هو نفسه سكن خيران وكل سكان المنطقة. واستمر الخواجة في بيان المثالب والمعايب، وحين انتهى، دعاه خيران لتناول القهوة العربية والتمر، إلى حين نضج وجبة الطعام التي حرص خيران على أن تكون من أطيب أغنامه، لكن الخواجة اعتذر بلطف، وغادر مع سائقه، لأنه سيزور مجموعة من القرى المجاورة. قفل خيران خيمته مستاءً، وجلس مع عامله يشربان القهوة التي تم إعدادها للضيف حيث كانت من القهوة البرية التي لا يصنعها إلا لأكابر القوم. * جميل أن يتم الاطلاع على تجارب الآخرين والاستفادة منها، فالحقّ ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أولى بها، لكن لندرك أن البيئة، والظروف، والثقافة السائدة، والأنظمة، والتشريعات، والمرجعيات، وأشياء أخرى تجعل استنساخ التجارب برمّتها خطأ شنيعاً. وأننا دوماً بحاجة إلى عين الخبير المحلّي التي توائم بين التطوير والتحسين المستمر والأفكار الجديدة، وبين معطيات البيئة والظروف المحيطة. وخاصة أننا نلاحظ اليوم – وللأسف – انتشار نظرة الإكبار والإعجاب والتقدير للتجربة الخيرية الغربية، والنظر بدونية وتقليل وتهوين لتجاربنا المحلية والإقليمية.. مع أننا ندرك يقينا أنه في الوقت الذي يدرّسنا الغربيون "فنون جمع التبرعات" ويقيمون ورش العمل لمناقشة هذا الموضوع، فإننا لم نكن نشكو من قلة التبرعات إلا حين تسلّطت حكوماتهم للضغط باتجاه تجفيف المنابع ومحاصرة العمل الخيري الإغاثي الإسلامي، وسنّ القوانين التي تضيق عليه، في الوقت الذي تفتح فيه الأبواب على مصراعيها لجمعياتهم التنصيرية. كما ندرك أنه في الوقت الذي أشغلنا فيه الغربيون بالحوكمة والشفافية والنزاهة، ووضع المقاييس والمعايير، فإنّ الواقع يشهد أنهم في دولهم، ومنظماتهم ومؤسساتهم المحلّية، والأممية أبعد ما يكونون عن ذلك، والاطلاع على موازنات التشغيل في المنظمات الأممية تكشف شيئاً من ذلك. وأنه في الوقت الذي يعوّل فيه الغربيون على الأنظمة والضبط المزعوم، فإننا نعوّل على الوازع الشرعي، والخوف من الله، الذي يردعك حين لا يوجد رادع، ويمنعك حين تتيسر لك سبل الفساد، فتسمع منادياً يذكرك بقول يوسف ((إني أخاف الله))، ويذكرك بقول تلك الفتاة الصغيرة (إن كان عُمَر لا يرانا.. فربّ عمر يرانا) يا قوم، إننا بكل عجرنا وبجرنا، ونقصنا وضعفنا، وتقصيرنا وقصورنا.. خير منهم، وإلى الله أقرب. وإننا اليوم أحوج ما نكون إلى ضخ المزيد من جرعات الثقة بالنفس، والانتماء الحضاري الذي يحمينا من الاستلاب للغرب. ملحوظة: القصة لا علاقة لها بأي أحداث أو فعاليات هنا أو هناك، وأي تشابه في المعطيات أو الأسماء فهو غير مقصود. أ.محمد بن سعد العوشن إعلامي مهتم بالعمل الخيري [email protected]اضافة اعلان
كلمات البحث
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook