الجمعة، 10 شوال 1445 ، 19 أبريل 2024

أعلن معنا

اتصل بنا

المال، لغةً وثقافةً

أ أ
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook

يقول جبران خليل جبران: (هناك أناس فقراء جداً، لا يملكون سوى المال) وهذه الكلمة كتاب من العقل، وصفحة من الحضارة المزدهرة التي يصوّرها الأديب في جملة أشبه ببيت من الشعر الغنائيّ، لأنّ الفقر في هذه الجملة لم يعد هو الفقر اللغوي الذي لا يجاوز الحاجة إلى المال، وهو الفقر الذي لا يُخشى علينا منه، إنّما الفقر المخيف هو الذي يمتلك فيه الإنسان المال ويفتقر إلى معاني الحياة، فهو الفقير حقّا، ولن يمنحه ماله شيئاً من تلك المعاني الروحيّة العليا.

اضافة اعلان

وهذا الأمر لا ينطبق على الأفراد فحسب، بل ينسحب كذلك على المجتمعات، فإذا كان المجتمع يتّجه في اهتماماته إلى المال والمستوى المعيشي والمعطيات المادية؛ فإنّ الشعور بالفقر، والضعف والحاجة، هو المتلازمة التي تدور مع كل موجة اقتصاديّة، ومع كل حدث سياسي يحيط بالمجتمع. وليست هذه من خصائص المجتمع المعرفيّ الحضاريّ الذي ينظر للحياة على أنها بنية تكامليّة، متوازنة بين الروح والمادّة؛ بين حياة معيشيّة راقية المستوى، وبين حياة روحيّة سامية الهدف، لكن الافتقار إلى المعرفة وما يتعلّق بها من فكر، وثقافة، وتوجّهات، وسلوك، هو في الحقيقة أعظم من الافتقار إلى المال.

وبالنظر إلى واقع الأمم فإنّ الفقر الماديّ هو أقلّ معاني الفقر أهميّة، فلا يصحّ أن يتوجّه المجتمع إلى الكسب الماديّ، وتنمية الدخل، والحرص على المال، في حين يفتقر إلى المعرفة، وإن كانت العلاقة بينهما علاقة مطّردة، لأنّ مجتمع المعرفة هو المجتمع الذي يوازن بين معطيات المكان، وبين حاجة المكان إلى إنسان فاعل يبادله العطاء، وحينها تتحقق عمارة الإنسان للأرض، واستخلافه فيها على منهج ربانيّ.

وإذا كانت الأوطان هي أحد أسباب الرزق فإنّ معاني الانتماء للمكان تفوق هذا الرابط البدائيّ، فحين ترك إبراهيم عليه السلام زوجه هاجر وابنها إسماعيل على هذه الأرض طاعة لما أمره الله به؛ لم يكن في ذلك المكان سبب من أسباب العيش، وهذا هو المدلول الأعظم للعلاقة بين الإنسان والمكان حيث تتجاوز تلك العلاقة مجرّد الإقامة للقوت.

والأوطان هي في الأصل مكان إقامة الإنسان وارتباط الإنسان بالمكان هو ثنائيّة المواطنة، وتلك الروابط أعظمها الرابط الروحي كقدسية المكان، والقيمة التاريخية له. وأتربة الأوطان، وجبالها، ووهادها لن تتبدّل بتبدّل الإنسان الذي يسكن عليها، الذي يتغيّر هو الإنسان حين تتغيّر قيمة المكان في نفسه، وتتغيّر علاقته بالمكان، فالذي لا ينتمي لوطنه لا يساوي في رصيد الوطن سوى عبء يقيم فوق ترابه، فلو قصرت موارد الوطن لتحوّل ذلك الفرد إلى عاقّ للوطن، لا يساوي تراب وطنه سوى حفنة دراهم يقتات بها في موطن آخر. أمّا الإنسان الذي هو قيمة إضافيّة لوطنه هو الذي يتحقّق فيه الولاء للوطن على كلّ حال، وتتحقّق فيه القدرة على الإنتاج‏ الذي يخدم نموّ الوطن وموارده، ومكتسباته.

إن انصراف المجتمع إلى القضيّة الماليّة والاقتصاديّة، وتحويل طاقاته إلى كيفيّات تبحث عن المال، وتعمل لأجل الموارد الماديّة فحسب، لهو مؤشّر غير صحيّ في معيار الوطنيّة العليا، وذلك أن المعطى الحضاريّ الذي تتمثّل فيه الحياة في صورة كسب مالي، ومداخيل ماديّة، هو الذي ينقل عاطفة الإنسان وصلته بالمكان من عاطفة أصيلة تعظّم المكان وتحفظ له حقّ الولاء والقدسية، إلى عاطفة تعامل المكان بقدر ما تحقّق فيه من عائد ماديّ، وبقدر ما تكسب منه وتجمع من مال فوق ترابه، وحينئذ فلا فرق بين المواطن الذي يكوّن المعادلة الثنائية الوطنية "الإنسان والمكان" وبين العامل الأجنبي الذي لا يربطه بالمكان سوى أنّه مصدر للعمل لتحقيق الكسب المالي، فإقامته -غالباً- متعلّقة بجمع المال، فلن يكون المواطن الذي وجّهت اهتماماته إلى المدخول الاقتصاديّ بأحسن حالاً من العامل الأجنبي الذي جاء للعمل والكسب الماليّ.

لقد تضلّعت مواقع التواصل الاجتماعيّ، وامتلأت وسائل الإعلام الجديد بالصوت الشجيّ الذي همّه المال، وفقيده الريال، ولن تحقّق الرؤية الوطنية أهدافها العليا السامية إلا بالعمل على تعزيز المواطنة من خلال نموّ الحس الوطني تعظيماً وتقديساً وانتماء للوطن، فلا ينبغي أن تُستهلك عاطفة المواطن في الدفاع عن جيبه، ثم نجد عاطفته تجاه وطنه وقدسيّته، وتاريخه، وحضارته، أوهى من بيت العنكبوت.

كلمات البحث
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook