الجمعة، 10 شوال 1445 ، 19 أبريل 2024

أعلن معنا

اتصل بنا

فيض المشاعِر في أغلى المشاعِر

8885
أ أ
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook

اعتدت الحج مع حملات تنقلنا بحافلاتها بين المشاعر، فيغيب عني بعض معاني الحج، لكن التنويع مطلوب ليحج القلب مع البدن، ويحلق في سماء الآخرة، بعيداً عن زخم الدنيا ونعيمها الزائل، فلما نزلنا مزدلفة ودعنا أصحابنا فالملتقى بمنى بإذن الله..

اضافة اعلان

افترقنا عنهم نريد أن نتذوق طعماً آخر للحج لم نتذوقه من قبل، ولن نتذوقه ما دمنا نتنقل في الحافلات، ونغلق على أنفسنا المخيمات، من هنا كانت البداية...

المبيت بمزدلفة وقبله الوقوف بعرفة الجميع على صعيد واحد ذابت أحسابهم وأنسابهم ومناصبهم، لا فرق في الظاهر بينهم، عربهم وعجمهم، عزيزهم وذليلهم، غنيهم وفقيرهم؛  هذا ما يغرسه الحج لا فرق في الظاهر أبداً، إنما التفاضل الحقيقي مكمنه تلك المضغة التي يطلع عليها من يعلم السر وأخفى..

حط وفود الكريم رحالهم بمزدلفة ليبيتوا على التراب.. يا الله أين الأسرّة العالية، والأرائك الناعمة، والنمارق المصفوفة، والفرش المنقوشة، استوحيت رسالة ربانية: أي عبدي اليوم نمت فوق التراب وسيأتي اليوم الذي ستنام فيه تحت التراب، فاستعد لذاك اليوم ما دمت في زمن الإمهال!! يكفي ليلة واحدة فقط لتُفهمك الدرس! فإذا أسفرت الشمس انطلق إلى منى وما بين الصلاة والإسفار دعاء وذكر وابتهال..

سار ركب الهدى بخشوع وسكينة وفي أثناء الطريق اضطر كثير منهم للتخفف من متاعهم الذي أثقل سيرهم حينها أيقنت إن أردت المسارعة في الخير والمسابقة عليه لا بد أن أتخفف من الذنوب ومن متع الدنيا الزائلة، لأسير بخفة وسرعة إلى جنة عرضها السموات والأرض {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (سورة آل عمران: 133).

ارتفعت الشمس في كبد السماء فأخرج كل من يملك مظلة "شمسية" مظلته لتقيه حر الشمس، انتابتني رعشة وأنا أنظر لهذا الموقف.. إيــه يا نفسي الآن بوسعك أن تخرجي مظلتك متى أردت، وباستطاعتك تُظلي من تشائين بمظلتك، وتعيريها من تريدين لكن سيأتي اليوم الذي لن يظل فيه إلا من اختارهم الله لظله، وهم: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق فأخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه.

وذكرت قول النبي – صلى الله عليه وسلم - : "اقرءوا القرآن فإنه شافع لأصحابه يوم القيامة، اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أهلهما" (أخرجه مسلم في صحيحه).

وأنا في خضم هذا الشعور المهيب تأخرت عن سير أهلي قليلاً وإذ بكل واحد منهم يناديني، حينها وقف قول الله أمام ناظري: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41)} (سورة عبس) اليوم أهلي يبحثون عني ويتفقدونني، وسيأتي اليوم الذي يفرون مني وأفر منهم خشية أن يطالبونني بحقوقهم، أو أطالبهم بحقي.. يا الله الموقف عظيم لكل شأنه الذي شغله!! رحماك ربنا رحماك..

أتعبنا المسير فأردت أن أقف قليلاً لأستريح ثم أكمل المشوار وجدت عن بعد مكاناً مناسباً للجلوس ذهبت إليه، وإذ بإحدى الأخوات تقول: محجوز.. تنحيت قليلاً أبحث عن غيره، وجد والدي – حفظه الله - مكاناً آخر مناسباً للجلوس استأذن الرجل الذي يقف فيه عله يسمح لنا بالجلوس بجواره لكنه رفض وقال: محجوز..

تذكرت ذاك اليوم الذي يقول كل شخص: نفسي نفسي.. إلا شخصاً واحداً فقط، يقول: أمتي أمتي.. روحي له الفداء.

فماذا قدمنا لنصرته، ونشر سنته، والدعوة لدينه، والعمل بمنهجه؟!!

هذه وقفات باح بها الخاطر راجية المولى الكبير أن يستفيد منها كل حاج، وهو يودع أهله بإرادته مستشعراً اليوم الذي سيودعونه بدون إرادته، وحين يتجرد من مخيطه امتثالاً لأمر ربه يتذكر ذلك اليوم الذي سيُجرد فيه بلا حول منه ولا قوة..

كل هذه المعاني وغيرها تجعلنا ندرك لم بدأ ربنا سورة الحج بذكر يوم القيامة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)} ولم يبدأه بالوقوف بعرفة، ولا المبيت بمزدلفة أو منى، أو رمي الجمار..

الحج مدرسة لمن وفقه الله لفهم مناهجها، واستخلاص دروسها وعبرها ليتخرج منها بشهادة التقوى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}. (سورة البقرة: 203) ويتخرج منها بشهادة الاستسلام والإذعان والخضوع، فهذا حجر يُقبّل، وذاك يُرمى، وآخر يُرمى به، ورابع يُطاف حوله، وخامس يصعد عليه، كل هذا لتحقيق العبودية التامة: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (سورة القصص: 68).

إلهي، آمنا يوم الفزع الأكبر، واجعل لنا من مقاصد الحج أوفر الحظ والنصيب..

addtoany link whatsapp telegram twitter facebook