الجمعة، 19 رمضان 1445 ، 29 مارس 2024

أعلن معنا

اتصل بنا

الحضارة المادية في ميزان الآخرة

د.مريم تيجاني
أ أ
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook

إذا كان الشعور بالمشكلة وتحديدها هو أوَّل خطوات العلاج، فإن غياب ذلكم الإحساس والشعور هو المشكلة بعينها! إنها مشكلة الإنسانية في علاقتها الأدبية مع ربها سبحانهُ وتعالى منذُ أقدمِ العصور إلى يومنا هذا.

اضافة اعلان

(وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) الزمر (45).

وكم أولئك الذين يستبشرون بذكرِ دنياهم ولهوها ولعبها، وإذا ذُكرت شريعة الله وأحكامها وما قال الله ورسوله، رأيت أحوالهم في تغيّر، وودوا لو سكت!

نسأل الله العافية وحسن الأدبِ معه تعالى..

وهل الدين إلا الأدب مع الله عز وجل؟!

فالمشكلة هاهنا أن الكثير من الناس ما شعرَ - أصلاً - بوجودِ مشكلةٍ جوهرية، هي على محكِّ الإيمان، وشفيرِ قنطرةِ الفوز والنجاة في الدنيا والآخرة!

وإنما سبيلُه التمنِّي وديدنهُ التواكل.

فإن كنت في شأنِ دنياك تأبى إلا التفوق والتميز، فكذلك كن في شأنِ الآخرة، تأبى إلا النجاة الكاملة التامة، ولسانُ الحال والمقال: "ربِّ أسألك الجنة بلا سابقةِ عذابٍ ولا عقاب". فإن أقواماً يُسمَّون الجهنميين يدخلون الجنة بعد أن يطهروا بقضاء مدة العقاب الإلهي.

ألا تتشّوف للتميز في آخرتك والتفوق فيها؟! تلكَ هِمةٌ عالية، وقمةٌ سامقة قلَّ اليوم طُلابها للأسف - إلا من رحم الله - وما الأماني إلا رأسُ أموالِ المفاليس!

ولكنها حياتنا وحضارتنا المادية المعاصرة! تلك الغيمة المظلمة التي يُخشى إن أمطرت أمطرت كِسفاً والعياذُ بالله. إذ ليس بيننا وبين الله نسباً، ولكنها سُنن الإله في كونهِ وعباده: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) هود (102).

قال نبي الله بأبي هو وأمي: "ما الفقرَ أخشى عليكم؛ ولكني أخشى عليكم أن تُبسطَ الدنيا عليكم كما بُسِطتْ على من كان قبلكم فتنافَسوها كما تنافَسوها وتُهلكَكم كما أهلكتْهم". وفي روايةٍ: "وتُلهيكم كما ألهَتهم".

فكيف إذا اجتمع الهوى إلى ذلك التنافس والحُب للدنيا؟! سينشأ التمرد على شريعة الله!

وكيف إذا اجتمع إليهما التمرُّد على شرع الله تعالى؟! ستنشأ المحآدّة للهِ ورسوله وتستشري الغفلة ويقسو القلب. فيتردَّى الإنسان ما لم يُحدِث توبةً وإنابة – بإذنِ ربه-.

أمَّا منشأ الإشكال فاستحواذ حب الدنيا على قلب المسلم، مما يورث نسيان الحقيقة القرآنية الخالدة (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) الأعلى (16-17).

أورد بعض المفسرين: "(والآخرة خير وأبقى) قال عرفجة الأشجعي: كنا عند ابن مسعود فقرأ هذه الآية، فقال لنا: أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة؟ قلنا: لا قال: لأن الدنيا أحضرت، وعجل لنا طعامها وشرابها ونساؤها ولذاتها وبهجتها، وأن الآخرة نعتت لنا، وزويت عنا فأحببنا العاجل وتركنا الآجل".

تشخيص دقيق! - لله درُّ ابن مسعود رضي الله عنه-.

فهل تفرَّد القرآن بذكر هذه الحقيقة؟

يقول ربنا تعالى: (إِنَّ هَذَا) يعني ما ذكر (لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى) أي في الكتب الأولى التي أنزلت قبل القرآن، ذكر فيها فلاح المتزكي والمصلي، وإيثار الخلق الحياة الدنيا على الآخرة، وأن الآخرة خير وأبقى.

من مظاهر العِزَّة الإلهية:

قال صلى الله علـيه وسلم: "خلق اللهُ آدمَ، فضَرَبَ كَتِفَه اليُمْنَى، فأَخَرجَ ذُرِّيةً بيضاءَ كأنَّهم اللَبنُ، ثم ضَرَبَ كَتِفَه اليُسْرى، فأَخْرَجَ ذُرِّيَّةً سَوْدَاءَ كَأَنَّهُمُ الْحُمَمُ، قال: هؤلاءِ في الجنةِ ولا أُبالِي، وهؤلاءِ في النارِ ولا أُبالِي".

لا يبالي ربُّ العِزّة عز وجل..

حريٌّ بكلِ عاقل أن يقف هاهنا، ويتفكّر في هذا الحديث الشريف ملياً.

إنهُ العزيز سبحانه..

وإنما الخاسر من خسر نفسه يوم القيامة. (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) الزمر (15).

هذه الحقيقة التي يؤكدها القرآن الكريم؛ مهما بلغت الدنيا من زينتها وزخرفها، إلا أنها لا تساوي عند الله شيئاً؛ ولا حتى جناح بعوضة. بل ذلك البهرج وتلك الزينة مؤذنة بالخراب والفناء: (حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) يونس (24).

لذلك لما احتج المشركون الأول بما كانوا ينعمون به من متاعِ دنياهم، بيَّن الله تعالى أنه أهلك من هو أحسنُ متاعاً ورغداً دنيوياً: قال تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً) مريم (73-74).

وذلك ليبين لهم أن اهتماماتهم خصوصاً، واهتمامات البشر المادية عموماً ليست هي المحك ولا ميزان الخيرية والتفاضل عنده تعالى، وإنما الإيمان الصادق القائد والدافع للعمل الصالح.

أورد الطبري عن قتادة: "يقول الله تبارك وتعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً): أي أكثر متاعاً وأحسن منزلة ومستقراً، فأهلك الله أموالهم، وأفسد صورهم عليهم تبارك وتعالى".

ويشهدُ لهذا المعنى الجلل حديثه صلى الله عليـه وسلم، فيما يرويه عن ربه: "إني خلقتُ عبادي حنفاء، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرَّمت عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرَتْهُم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقَتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب".

والمقت: أشد البُغض. والمراد بهذا المقت والنظر ما قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمراد ببقايا أهل الكتاب: الباقون على التمسُّك بدينهم الحقِّ من غير تبديل.

فالشاهد أن المقت الإلهي طال جميع أهل الأرض قبل البعثة المحمدية – على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم- رغم وجود أعظم حضارتين ماديتين آنذاك؛ فارس والروم. لكن لم تسعفها تلك الحضارة المادية لتنجو من مقت اللهِ تعالى. ولم يُستثنَ إلا بقايا من أهل الكتاب؛ لما كانوا عليه من الإيمان والعمل الصالح.

سبحان الله؛ كيف تطيب الحياة لمخلوق، فيهنأ في مأكله ومشربه وملبسه ونومه وسائر تفاصيل حياته، ومقتُ خالقِه عز وجل يلفُهُ أنى راح وذهب؟! – نسألُ الله السلامة والعافية-.

إنهُ نموذجٌ أخبر به النص الشرعي على مستوى الأرض جميعها في حِقبةٍ من الزمان. فيا لله كم هم اليوم من يعيشون ويروحون ويجيئون ويأكلون ويتمتعون في معيشتهم، والمقتُ الإلهي يحيط بهم من كل جانب – على مستوى الأفراد-؟! نعوذُ بالله من الضلالة والخزي.

والسؤال الآن:

كيف نستعيد الشخصية المسلمة القوية المتزنة، ونستنقذ هويتنا الذائبة في أجاج الغزو الفكري المعاصر؟!

بعدم الانبهار! .. ذلكم السلاح الفرعوني!!

نعم؛ بألا ننبهر بما نرى من حولنا من متاعٍ وحضارة مادية معاصرة.. فننغمس ونغفل عن الحقائق الشرعية الثابتة. (إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) يونس (7-8).

إنه السلاح الفكري الذي استخدمهُ فرعونُ ضد قومه من قبل. وعادت العولمة الثقافية والمادية المعاصرة لتمارسهُ علينا اليوم!

قال تعالى: (وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِيۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ) الزخرف (51-52-53-54).

فهو يدغدغ حواس قومهِ بلفت انتباههم وأبصارهم إلى ما هو عليه من المتاع والهيمنة الحضارية المادية: (ملك مصر)، (الأنهارُ تجري من تحتي)، (أفلا تبصرون؟!).

وفي ذات الوقت كان يستخدم نفس الأسلوب الفكري للمز والطعن في نبي اللهِ موسى عليـه السلام أمام قومه: (فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب)، (أو جاء معه الملائكة). ولسان حال فرعون: ما يجدي لكم اتباع موسى ولم يؤتَ من المتاع المادي ما يملأ به أعينكم ويُدغدغ به حواسكم؟!

النتيجة المعنوية: (فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين).

النتيجة الحِسية: (انتقمنا منهم)، بالإهلاك.

تلك النتائج التي نستفيد منها إشارات ومعاني جليلة عندما نتأملها:

1/ الانبهار بالمتاع والعتاد المادي خفة في العقل!

2/ إذا كان ذلك الانبهار بالماديات على حساب العلم الإلهي الذي جاءت به الأنبياء، فإنهُ يستحيلُ حينئذِ إلى فسق والعياذُ بالله.

3/ النتيجة الحتمية لكل من عصى واستكبر عن امتثالِ شريعة الله ودينه؛ العقوبة والإهلاك.

ووعيدُ الآخرة: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُواً وَعَشِياًۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) غافر (46).

أعاذنا الله من سوءِ العاقبة والمنقلب.

وأمثلة العصاة والجبارين والمستكبرين والمعتدين التي قصَّها علينا القرآن كثيرة. ووقائع الأمم وشواهد التاريخ أكثر من أن تُحصى، ولكن يأبى الغافل إلا أن يكون عِبرة!

فإذا أُمن جانب الانبهار الزائف! وأخذت التنشئة السوية (الإيمانية) مكانها الصحيح من الاهتمام والرعاية والدعم على كافةِ المستويات، ستؤتي التربية أُكُلها وتنهض الأمة – بأجيالها- من جديد بإذن الله تعالى.

فهل شعرنا بوجود المشكلة؟!

أسأل الله الرحمن الرحيم الحليم أن يردَّ ضال المسلمين إلى دينهِ رداً جميلاً، ويمكِّن لدينهِ وأمة نبيه صلى الله عليه وسلم..

كتبتهُ/ مريم تيجاني

11/11/1436هــ

كلمات البحث
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook