السبت، 11 شوال 1445 ، 20 أبريل 2024

أعلن معنا

اتصل بنا

إني تذكرتُ والذكرى مُؤَرِّقةٌ...

أ أ
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook

باسم الله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد :

هناك ذكريات لا يمكن أن تمحى من ذاكرة الإنسان ، مهما بلغ من العمر ، ومهما تشعبت به الحياة ، ومهما تَقلب في صروف الدنيا:

اضافة اعلان

ومن صحب الدنيا ولو عمر ساعة

                                            رأى من صروف الدهر فيها العجائبا

ومن تلك الذكريات الجميلة ، والمواقف الحية في النفس ، والتي تبقى كسلوان للإنسان ، وسعادة يتطعمها ، ويشم رائحتها الزكية ، فتنقله من عالم إلى عالم ومن زمان إلى زمان ، ومن حياة إلى حياة ... ذكريات الوالدين وقصصهم ومواقفهم وصفاتهم ؛ وقد مضى على وفاتهم ما يزيد على عشرين عاماً وكان بين وفاة الوالد والوالدة ما يقارب السنة والنصف ...

وفي هذه المقالة المختصرة أذكر شيئا من صفات والديَّ الكريمين رحمهم الله وجميع المسلمين  ، واللذان يمثلان جيلاً رائعا تميز بصفات جليلة جميلة ، افتقدنا أكثر ذلك الجيل ، وبقي منهم بقايا هم زينة الحياة وبهجتها وبركتها ، فكم فيهم من العباد والصالحين ، وكم فيهم من أصحاب المروءات والنجدات ، وكم وكم فيهم من الصفات ...

وإن مقصدي من هذه المقالة التي وإن كانت في أصلها مقالة شخصية إلا أنها في حقيقتها عامة ، فغالب ذلك الجيل الجميل ( جيل الآباء والأجداد ) يتميز بمثل هذه الصفات ، أقول إن من مقصدي تذكير الأبناء والأحفاد بسيرة الآباء والأجداد ، فيقتدوا بهم وينهجوا سيرتهم وأخلاقهم ؛  ومن المقاصد الترحم على الآباء والأجداد وتدوين سيرهم ، ومن المقاصد تذكير من يعيش تحت كنف والديه أو أحدهما بهذه النعمة الجليلة والبركة العظيمة ، والتي قد لا يقدرها البعض حق قدرها ، حتى وإن كان بهم براً محسنا ، فإن النعم أعظم ما يُعرف قدرها عند فقدها بعد التمتع بها ، وكما قال القائل ــ وصدق فيما قال ـــ  :( يظل الرجل طفلا حتى تموت أمه ، فإذا ماتت شاخ فجأة ) وكما قال شوقي في رثاء أبيه

                        أَنا مَن ماتَ وَمَن ماتَ أَنا

                                                      لَقِيَ المَوت كِلانا مَرَّتَين

  والله أسأل أن يغفر لوالدي ووالديكم وأحبابنا والمسلمين ويرحم الله من قال آمينا...

  • من صفات الوالد رحمه الله الحرص على النوافل بعد الفرائض ، فمن ذلك التبكير في الذهاب للمسجد ، فتجده من قبل الأذان وهو يتهيأ لها ، فمن النادر جداً أن تفوته تكبيرة الإحرام ، بل إن من العيب الكبير عنده أن يُرى وهو يقضي الصلاة ، وكان يحرص وهو ذاهب للمسجد أن يأخذنا معه ، ويتابع من يتكاسل في الصلاة أو يفرط فيها ، ولا يسمح أبداً بالتفريط في هذا الموضوع ، كما كنت تجده ــــ مع أنه عامي لا يقرأ ولا يكتب ولم يدرس في المدارس ـ حريصاً أعظم الحرص على نوافل العبادة كالسنن الرواتب ، وما تيسر من قيام الليل ، وكان كثير الاستيقاظ من نومه أثناء الليل ففي الغالب أنه إذا قام صلى ركعتين أو أكثر ثم ينام بعدها ، وكان محافظا على صيام الست من شوال وكذا عرفة وعاشوراء وغيرها من النوافل من العبادات ، وهكذا كان أكثر ذلك الجيل المبارك
  • ومن صفاته الكرم غير المتكلف ، فطبيعة ذلك الجيل الكرم بفطرتهم ونشأتهم ، فغالب الأيام لا أراه في الفطور أو الغداء بالخصوص إلا ومعه رجل أو أكثر ، فنادراً ما يتغدى إلا ومعه ضيف ، ومن كرم ذلك الجيل ومنهم والدي أنهم يستعيبون أن يروا سائلاً ثم لا يمدوا له شيئاً ولو كان قليلا
  • ومن صفاتهم الوفاء ، فتجد بينهم من المحبة والفزعة ، والوقوف في الشدائد ، وبذل النفيس من أجل ذلك على قلة ذات اليد وشدة الحاجة ، وأذكر أن الوالد سعى مع أحد أصدقائه الذي تعسرت أموره وتأخر في زواجه حتى قارب الخمسين ، فسعى معه الوالد سعياً حثيثاً بماله وبما يستطيع حتى تم الزواج ، فكان هذا الصاحب من وفائه لم ينسها للوالد وأصبح يضحي عنه كل سنة ، وكنت إذا قابلته بعد وفاة الوالد، تذكر الوالد فأكثر له الدعاء وأحيانا يخلطها بدموع تدل على المحبة والوفاء ، رحمهما الله جمعياً ، ومن الوفاء أن أحد الجيران سافر لبعض حاجته وأطال السفر فكان الوالد يتفقدهم ويتابع حاجاتهم ويوفرها لهم حتى رجع والدهم ، وكذا من مواقفه تنازله عن قيمة بيت مشترك بينه وبين أحد الجيران لما رأى حاجتهم للمال ، وإكراما لمقدار الجيرة .
  • ولعلي أذكر بعض صفات الوالدة والتي كانت تمثل نساء ذلك الجيل الطاهر النقي ، فمن ذلك حرصها على خدمة الغير والإحسان لهم بقدر ما تستطيع وإدخال السرور على الناس ، وأذكر أن أحد نساء الحارة حصل خصام بينها وبين زوجها فتركها وأبناءها ، وأصبحوا في شدة وكرب فكانت الوالدة تتعاهدهم بما تستطيع حتى انتهت حاجتهم ، وكانت تخدم نساء الحارة بما تعرفه من طب شعبي وترسل لهم الوصفات التي عرفوها وجربوا نفعها ، مع قلة ذات اليد والحاجة الشديدة ، وكذا خدمتها ومساعدتها لمن تلد من نساء الجيران ، وقد كان الجميع في تلكم الحارات كأنهم عائلة واحدة مشتركة ...، ومن حرصها على إسعاد الأطفال أنها كانت تتعاهدهم بالحلوى والقريض ( والخشر ) وغير ذلك مما يحبه الأطفال ، وقد حدثني أحد كبار السن ممن تجاوز عمره الستين ، وكان من جيران الوالدة في بيت أهلها ، أنها كانت تفعل معهم ذلك من قبل زواجها ، وأن الأطفال يحبونها لما كانت تتعامل به معهم ، ومما يتعلق بذلك أنها تحب أن تهدي بما تستطيع ، حتى أنها تهدي من يزورها ، وقد تعجبت بعض النساء من ذلك وقالت لأحد الأخوات: أن العادة جرت بأن الزائر هو من يهدي في الغالب ولكن الوالدة غيرت هذه القاعدة فهي تهدي حين تزور وحين تزار
  • ومن صفاتها ولعلي أختم به المقالة ، حرصها على حجابها وتسترها ، وكان ذلك ديدن ذلك الجيل ، وأذكر أن الوالدة رحمها الله في آخر حياتها أصيبت بمرض استمر معها عدة سنوات فكانت تفقد معه أحيانا التركيز ـ؛ ومن ذلك أن طلبت من أحد أبناءها أن يذهب بها للسوق وقد لبست القفاز في اليد اليمنى ولم تلبسه في اليد اليسرى بسبب تأثير المرض ، فكان هذا الابن يريد إقناعها بلبسهما جميعا أو خلعهما فكانت مصرة على لبسه لأنها تظن أنها لابسة لهما جميعا ، مع أنها كانت من القواعد من النساء ولكن هكذا كان ذلك الجيل في تحشمه وتستره

وفي الختام هذه نماذج  لما كان يتصف به ذلك الجيل الطيب ، وما ذكرته عن والِديَّ هو بعض ما كان يمثله غالب ذلك الجيل الطيب ،أسأل الله أن يرحم الأموات وأن يحفظ الأحياء ويجمع لهم بين الأجر والعافية والعمر المديد على الطاعة  وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

فيصل بن محمد القعيضب

الدلم

18 / 10 / 1444

كلمات البحث
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook