الجمعة، 19 رمضان 1445 ، 29 مارس 2024

أعلن معنا

اتصل بنا

صحة العرب وطب الحياة

أ أ
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook

اختار الله تعالى العرب ومن عليهم بأن جعل فيهم آخر رسالة سماوية ارتضاها للعالمين. وقد يستخلص من ذلك استنتاجات كثيرة، منها ما يخص جودة الحياة والصحة، وما يقدم نموذجا يناسب كل البشرية كما أن الإسلام هداية للناس كافة.

اضافة اعلان

لقد ضمت عرب الجزيرة بيئة هادئة سادت فيها أفكار بسيطة بدوية بعيدة عن الرفاهية التي عاشتها الأمم المعاصرة لهم. وكان أثر تلك البيئة واضحا في حياتهم وأخلاقهم وميولهم ونزعاتهم الفريدة، وسادت فيهم الفطرة الإنسانيَّة السليمة والنَّزعة للاتجاهات الإنسانية الحميدة. فكانوا مادة خام صافية لم تنصهر بعد في أي بوتقة. ولم يكن ينقصهم سوى ظهور نبي يزكيهم ويتمم مكارم أخلاقهم ويعلمهم أسس الأخذ بأسباب الحياة الطيبة والمدنية والحضارة وقيادة العالم في كل المجالات.

تميز العرب بحب الحرية والوفاء والنجدة والكرم والإباء والعِفَّة. وجاء الإسلام في أوج نضج لغتهم وسموَها واختارها الله تعالى لُغة للدعوة الإسلامية وعنصر أصالة يميزهم ويجعلهم أكثر تأهيلا لإيصال معاني الحياة الكريمة في كل نواحيها بتلك اللغة الخالدة، وترجمة كلام الله عز وجل عمليا لكل العالم.

كان من عادات العرب الإقلال من الأكل، وكانوا يعتقدون أن البطنة تذهب الفطنة، وأن المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء، وكانوا يعيبون الرجل الأكول الجشع. وعندما سئل الحارث بن كلدة طبيب العرب في الجاهلية عن أفضل الدواءـ قال: "الأزم" (قلة الأكل) وكانوا يتعالجون بالحمية عن الطعام وبالأعشاب البسيطة، وقد أثرت قلة الطعام والحياة النشطة في هيئة الإنسان العربي وتركيبة جسمه، فكان جسمه نحيفاً رشيقا قويا لائقا. ولم يكن بينهم من الأطباء ما يعد على أصابع اليدين. وكان أحدهم إذا نال شربة من اللبن وخمس تمرات صغار دب فيه النشاط وظن نفسه ملكاً، فقد قال الأعرابي الأول:

إذا ما أصبنا كل يوم مُذيقة                         وخمس تميرات صغار كنائز

فنحن ملوك الأرض خصباً ونعمة                   ونحن أسود الغاب ضد الهزاهز

ولم يكن عزوف العرب عن الإكثار من الأكل فقط بسبب القلة والشح بل كانوا يرونه جزءا من الكرامة والعفة والصبر وسمو الأخلاق. يروى عن أبي خراش الهذلي وهو من مشاهير الصعاليك ترك الصعلكة بعد إسلامه، أنه أقفر من الزاد فخرج في سفر ومر بامرأة من هذيل جزلة شريفة، فأمرت له بشاة ذُبحت وشويت فلما وجد رائحة الطعام قرقر بطنه، فضرب عليه وقال: إنك لتقرقر لرائحة الطعام! فوالله لا طعمت منه، ثم نهض وركب بعيره ومضى، أنفة وترفعا عن الحاجة. أما صاحب لامية العرب الشنفرى فيصف زهده في الأكل ويفتخر باستغنائه عنه ترفعا عن الحاجة للآخرين، فقال

وأَسْتَـفُّ تُرْبَ الأرْضِ كَيْلا يُرَى لَـهُ           عَلَـيَّ مِنَ الطَّـوْلِ امْـرُؤٌ مُتَطَـوِّلُ

ويقول

وإنْ مُدَّت الأيدِي إلى الزادِ لمْ أكُنْ             بأعجَلِهِم إذْ أجشعُ القومُ أعْجَلُ

وما ذاكَ إلاَّ بَسْطَةٌ عنْ تفضُّلٍ                  عليهم وكانَ الأفضلَ المُتَفَضِّلُ

ويقول عن تحمله للجوع:

أُديـمُ مِطَـالَ الجُـوعِ حتّـى أُمِيتَـهُ           وأضْرِبُ عَنْهُ الذِّكْرَ صَفْحاً فأُذْهَـلُ

وقد صاغت الصحراء التي استوطنها العرب حياتهم ومنحتهم أفضل أنماط الحياة. فقد كانوا قليلي الأكل كثيري الحركة والنشاط والاستعداد للغزو والقتال والتنقل والهجرة ومشي المسافات الطويلة، وعاشوا حرية استمدوا معانيها من اتساع الصحراء المترامية الأطراف، كما كانوا ينامون ليلا ويستيقظون مبكرا ويستنشقون هواء نقيا ويتأملون سماء صافية ويكررون النظر إلى ملكوت لا نهاية له، ويستمتعون بترابط القبيلة وعلاقاتها المتجذرة. وكانوا يتخلصون من همومهم أولا بأول بالخروج إلى الصحراء والمشي والسفر. وكان العرب الذين اجتث الإسلام آفات جاهليتهم المرشحين الأول ليس فقط للحروب والقتال ونشر العدل، بل أيضا في أنماط الحياة الملائمة للإنسان في كل الأزمان في صحته الجسدية وتركيبته النفسية ومثالا سويا لكل البشرية.

أما بعد الإسلام فقد هذب القرآن والرسالة المحمدية العرب وألهمهم الاعتدال والوسطية وعدم الإسراف في تناول الطعام، وعلمهم نبيهم صلى الله عليه وسلم أنه "ما ملأ ابن آدم وعاء من شر من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن أوده، فإن كان لابد فاعل فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه" وجاء في الحديث "تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، وتعس عبد القطيفة، تعس عبد الخبيصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش" والخبيصة نوع من أنواع الطعام.

كما حدد الإسلام معالم الصحة وجعلها نعمة مغبون فيها كثير من الناس وربطها بعناصر الحياة الأخرى كالحرية والأمن والعدالة والتعليم والعمل وتوفر الكفاية من المأكل والمشرب والملبس والمسكن والزواج. كما ربط أنماط الحياة بانسجام الفرد مع الأسرة والمجتمع. ونظر إلى الصحة كرصيد يأخذ منه للمرض وأمر بتحري الغذاء الطيب واجتناب الخبيث وحث على الوقاية. كما بحفظ صحة المسنّين الجسمية والنفسية في نطاق الأسرة. واهتم بأنماط الحياة فحث على العادات الشخصية كالطهارة والاغتسال والسواك، وحدد للنوم آدابا، وحرم من الكلام ما يضر النفسيات والعلاقات ويؤدي إلى الشحناء والقطيعة، وفرض الصوم الركن الرابع وربطه بكف الجوارح عن الآثام والمعاصي والارتقاء بالإنسان في روحه وعقله. كما ربط الإسلام الحياة كلها بغاية عظمى وهدف سام يعيش الإنسان من أجله، ألا وهو إقامة العدل وتحقيق العبودية لله عز وجل.

ومع احتكاك العرب في صدر العصور الإسلامية بالأمم الأخرى فقد عرضوا ما أخذوه من علوم على محددات قوية مبنية على الكتاب والسنة، واستثنوا خرافات الحضارات الأخرى ورفضوا منها كل ما يضر بالضرورات الخمس (الدين والنفس والعقل والمال والنسب) تلك الضرورات عميقة الصلة بالصحة الجسدية والنفسية والعقلية والاجتماعية. وقد كانت الترجمات الأولى للنصوص الطبية التي أخذها العرب من الحضارات الأخرى أسسا لتصانيف "الطب الإسلامي" فقد صنعوا منه "دستورا" أو بروتوكولا للطب الوقائي كما يقول الدكتور شوقي الفنجري في كتابه (الطب الوقائي في الإسلام).

وللأسف فقد سلك العرب في العصور المتأخرة طريق التبعية الثقافية والانبهار والانقياد والتبني لكل ما يأتي من الغرب من قوالب صاغت النموذج الصحي وفق مجتمعات غريبة، قوالب تتجاهل المشهد الأكبر لأنماط الحياة وعلاقته بأمراض العصر. وتوجهوا لاهثين خلف طب علاجي مفصول في غالبه عن تعديل أنماط الحياة. أما طب النمط المعيشي المستورد من الغرب فيحمل الكثير من ضبابية "طب البراهين" المتأثر بأنماط الحياة الغربية وتغول الصناعات الغذائية والدوائية والعولمة.

إن النظام الصحي مدعو إلى توظيف أنماط الحياة الصحية ضمن الإطار الذي صلح به أمر الحياة في مهد الرسالة المحمدية، وإلى توظيف أنماط في الوقاية تلك في حفظ الصحة الموجودة وليس فقط استرداد الصحة المفقودة. وسيؤدي ذلك إلى توفير المليارات التي تصرف على تأجيل مضاعفات أمراض سببها الأكبر هو النمط المعيشي المستورد.

وعرب اليوم هم امتداد لعرب الجزيرة وأصبحوا بفضل الفتوح الإسلامية في عالم يزيد سكانه على 430 مليون نسمة في 22 دولة يتحدثون لغة واحدة. وهم جديرون بتوظيف موروثهم العظيم ولغتهم الخالدة الجامعة في تحسبن الصحة وجودة الحياة. وهذا المسار ليس بدعا من الأمم فهناك توجهات في تعزيز الصحة مستمدة من حضارات مثل الطبي الصيني والهندي وغيرها أخذت من الطب الغربي ومحصته وأنزلته على حياتها بوعي.

إن لدينا من الإمكانات المادية والمعنوية ما نستثمر به حضارتنا العظيمة في تعزيز الصحة، وفي الخروج من عباءة الغرب وسيطرة مدرسة واحدة، مدرسة عولمت الطب والأنظمة الصحية وتعولمت معها الأمراض وتناولها العلاجي بدوامته التي لا تنتهي. وما عاشه العربي الذي تلقى الرسالة الخاتمة والنمط الذي ارتضاه الله تعالى له هو نمط تحتاجه البشرية كافة ويناسب خلق الإنسان، ويجعل العربي الأول والمسلم نبراسا في حياته وسماته وفي جودة حياته.

ودمتم سالمين

د. صالح بن سعد الأنصاري

 

مستشار الصحة العامة وخبير تعزيز الصحة

المشرف على مركز تعزيز الصحة بالرياض

كلمات البحث
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook