الخميس، 18 رمضان 1445 ، 28 مارس 2024

أعلن معنا

اتصل بنا

الصحة والدوبامين الحلال

أ أ
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook

تناولت الطبيبة النفسية بجامعة ستانفورد آنا ليمبيكي في كتاب "أمًة الدوبامين" (Dopamine Nation) الذي صدر عام 2021م إشكالية الاستهلاك القهري المسبب للإدمان بكافة أنواعه. وشرحت بالتفصيل في كتابها الرائع علاقة مختلف أنواع الإدمان بهرمون الدوبامين، بدءا من إدمان المخدرات إلى إدمان تصفح تطبيقات التواصل، ومرورا بالطعام المليء بالسكر والنشويات وبإدمان الألعاب الاليكترونية والمشاهد الإباحية والجنس والقمار... وغيرها من مثيرات الدوبامين، وعرضت قصصا جسدت كيف يدمر الإدمان على الدوبامين الصحة الجسدية والنفسية والعقلية والاجتماعية.

اضافة اعلان

تشرح الدكتورة آن في كتابها كيف أن وفرة وسهولة الحصول على المتعة التي يتيحها عالم اليوم مقارنة بتاريخ البشرية تمثل تحديا كبيرا وسببا في الكثير من التعاسة. وتشير إلى أن "الترابط بين وفرة المتعة وتجنب نقص الدوبامين الذي نتعود عليه يفسر إدمان الطعام والهواتف الذكية وغيرها من متع". وبينما يعتقد الكثيرون أن إصابة بعض المرضى بالاكتئاب والقلق والأرق هو ما دفعهم لتعاطي المخدرات، تقول "إن ما حدث هو العكس، فتكرار السلوكيات التي ترفع مستويات الدوبامين، وسهولة وتكرار الحصول على المتع أودت بهم نحو الوقوع في أعمق درجات المعاناة"

والدوبامين ناقل عصبي في الدماغ يتحكم في مراكز المكافأة والمتعة والاستجابات العاطفية، ويعرَف بأنه "هرمون السعادة" وله قدرة كبيرة على التحفيز على تناول المادة أو تكرار السلوك المسبب للمتعة. ويفرز الدوبامين بطريقة لا تجعل المكافأة فقط مصدرا للسعادة، بل إنه يعمل بحيث يجعل مجرد الرغبة في المكافأة وتوقع الحصول عليها مصدرا للشعور بالسعادة. ولأن إفراز الدوبامين يسبق الحصول على المكافأة فإنه يدفعنا إلى الاستمتاع بالبحث عن المتعة وبالفضول وبتوقُّع المكافأة. وهذا أحد أسباب كوننا مخلوقات فضولية تستمتع بمجرد السعي والمحاولة مثل ما يسعدها الإنجاز ذاته.

ومن مصادر "خوفها على أمة الدوبامين" ترى الدكتورة آنا أن "الإسراف في اللذة المؤدية إلى الاعتماد والإدمان يقودنا في النهاية إلى الألم لامحالة، وهذا الألم نابع من تكرار الحاجة الملحة التي تدفعنا إلى الحصول عليها إلى أن نصل إلى (مرحلة التكيف العصبي) حيث يتطلب الحصول على نفس الدرجة من المتعة توفر المزيد والمزيد من تلك المادة الكيميائية الإدمانية، الدوبامين"

يرتفع الدوبامين عندما نشاهد الشكولاتة والوجبات السريعة في المحلات، أو حتى حين نشاهد إعلاناتها. ويرتفع حين نفتح تطبيقا للتواصل الاجتماعي بانتظار إثارة أو مفاجأة. كما يرتفع أيضا عندما نفكر أو نرى أو نقترب ممن نحب أو حتى عندما يقترب موعده. والدوبامين هو الذي يفسر كيف نعود للبحث عن الحلوى أو الشكولاتة، بينما لا نفعل نفس الشيء مع البروكلي. وإذا أضفنا سهولة الحصول على الطعام والإعلانان "المدروسة" للتشجيع على تناوله، يمكننا تفسير انتشار السمنة في العصر الحديث وفي مختلف الأعمار وبشكل غير مسبوق.

وفي الجانب الآخر فالدوبامين أيضا هو جزء من قدرتنا الفريدة على التفكير والتخطيط وإدارة السلوكيات الدافعة للإنجاز في مختلف جوانب الحياة، فالدوبامين يرتفع أيضا عندما ننهي إحدى المهام الكبيرة وعندما نضع علامة "تم" في قائمة الإنجازات، ويتكرر نفس الشعور بتكرار النجاحات التي تجعلنا ندمن العمل المنتج والصالح وإسعاد الآخرين.

ومن معرفة قوة أثر الدوبامين شبه بعض العلماء تأثيره بتأثير الهيروين على العقل. ويميل بعض الناس إلى إنتاج مزيد من الدوبامين أكثر من غيرهم بفعل نفس المؤثر مما يجعل البعض أكثر قابلية للإدمان بالوراثة، وهو مما يجعل البعض يقع ضحية سهلة لتسويق الأطعمة والممارسات المعززة لإفراز الدوبامين أكثر من غيرهم. لذا فقد أصبح الدوبامين أحد المفردات التي يتبادلها العاملون في تصميم تطبيقات الهواتف الذكية في وادي السيليكون، ومصممو آلات القمار في لاس فيجاس. وهو ضمن مؤشرات نجاح تطبيق مثل فيسبوك إذا غمرك بدافع قوي لفتح التطبيق بمجرد ظهور الإشعارات.

يقول د.توم فينوكين عن انتشار مرض السكري وبقية السلوكيات المؤدية للأمراض المزمنة في بيئة الغذاء الوفير والحياة الخاملة في العصر الحديث، يقول: "نحن مثل نبات الصبار الذي نقل إلى غابة مطيرة" فبينما خُلق الإنسان ليتكيف مع القليل من الغذاء والكثير من النشاط البدني في "العالم القديم" الذي يتسم بندرة الغذاء وصعوبة الصيد، فإذا به يغرق في وفرة الغذاء والخمول وينتفخ كما ينتفخ نبات الصبار ويموت إذا نقل إلى غابة مطيرة.

وفي محاولات علماء السلوك والمهتمين بالتوعية الصحية لإصلاح "سوء الفهم" الذي تسببه مثيرات الدوبامين المدمرة للصحة في الدماغ، تشير الأبحاث إلى جدوى التعامل مع قشرة الفص الجبهي من الدماغ (الناصية) المرتبطة بعمليات التفكير المنطقي والعقلاني. فعندما "تشرح" لناصيتك أضرار الإدمان بسبب "الدوبامين المحرم" تبدأ "ذاتك العليا" في إعادة تعليمك وتقوية إرادتك. وقد يجدي استمرارك في التفكير والتأمل ومحاولات تعليم ذاتك العليا ضرورة الاعتدال أو الانعتاق من أسر الدوبامين. وقد يجدي الاهتداء إلى أهمية "المتعة المؤجلة" التي تعدك بصحة جسدية ونفسية وعقلية أفضل مستقبلا، إذا تحكمت في مصادر ومستويات الدوبامين لديك.

ومن المهم "تعليم" قشرة الفص الجبهي (الناصية) في دماغك أن مكافأة الدوبامين هي إحدى بقايا "ذاتك البدائية" الأقل وعيا، وأنك واقع في أسر الدوبامين، فعندما تتحاور "ذاتك العليا" مع "ذاتك البدائية" وتطالبها بالاستيقاظ والوعي قدر الإمكان تكون قد بدأت رحلتك نحو التحكم في مثيرات الدوبامين لديك مهما كان نوع إدمانك.

ويتطلب التعامل مع إدمان الدوبامين معالجة العواطف وتهدئة التوتر الذي يسببه الانقطاع عن الدوبامين. ومن ذلك الاستعانة ببيئة معينة ترفع الدوبامين لديك بالإطراء واحترام اختياراتك. كما يتطلب استحضار نجاحاتك في تجارب سابقة. كما يتعلق النجاح بخفض التوقعات من مشاعر الدوبامين الذي يؤذي صحتك.

وقد وجد العلماء أن من أكبر مصادر "الدوبامين الحلال" الطبيعية على الإطلاق هو الممارسة الحميمية ضمن علاقة سوية بين الرجل والمرأة. كما يمكن أن يفرز الدوبامين بالتعرض لخبرات إيجابية تعزز صحتك دون أن تسبب الإدمان، بل يمكن أن يصيبك بـ "الإدمان المحمود" ومن ذلك ممارسة النشاط البدني والمشي وبالذات المشي في الطبيعة، وتناول القهوة وممارسة الخشوع والتأمل. كما يفرز عندما تمسح على رأس يتيم، أو تزور مريضا، وباللعب مع الأطفال، أو عندما تنخرط في عمل تطوعي أو بقراءة كتاب ممتع تشعر بحاجة قديمة لقراءته. ويمكن أن تحصل على الدوبامين عند التعرض لما يكفي من ضوء الشمس، وعند الاستماع إلى القرآن بصوت جميل، وبسماع أصوات العصافير أول النهار أو عندما تعود إلى أوكارها عند الغروب.

ختاما، فكما أن إدمان الدوبامين أصبح يفسر الكثير من السلوكيات التي تهدد صحتنا، فهو أيضا يحركنا ككائنات مكلفة ومسؤولة. بل إن "الدوبامين الحلال" يعدنا بالكثير من تعزيز الصحة الجسدية والنفسية والعقلية والاجتماعية إذا قبلنا بمقتضيات التكليف الذي يميزنا عن غيرنا من المخلوقات.

ودمتم سالمين

                د. صالح بن سعد الأنصاري

     مستشار الصحة العامة وخبير تعزيز الصحة

    المشرف على مركز تعزيز الصحة بالرياض

كلمات البحث
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook