الجمعة، 10 شوال 1445 ، 19 أبريل 2024

أعلن معنا

اتصل بنا

المشي بين فصي الدماغ .. وكيف يعزز الإبداع؟

أ أ
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook

يتشابه فصا الدماغ الأيمن والأيسر إلى حدّ كبير من حيث التشريح والمظهر، لكن هناك فرق كبير في الوظيفة والتعامل مع المعلومات، إذ يتحكم نصف الدّماغ الأيسر في الكلام والمنطق والفهم والحساب والتعامل مع المنطق والأرقام والتحكم في حركة العضلات الكبيرة، وفي استشعار المكان ووجود الجسد في الفضاء وفي التواصل غير اللفظي واستشعار الروائح والأصوات والتذوق والتفكير المنطقي والنقدي. ويتحكم نصف الدّماغ الأيمن في الإبداع وحفظ الاتجاهات والأماكن والمهارات الفنيّة والتّعرّف على ملامح الوجوه وفهم العواطف وإدراكها والتعبير عن المشاعر، وفي فهم تناسق الألوان والصور باستخدام الخيال.

اضافة اعلان

وهناك "جسر" واصل بين جانبي الدماغ يسمى الجسم الثفني (Corpus Callosum) وهو شريط سميك من الألياف العصبية تقدر بحوالي 200 مليون محور عصبي. ويسمح الجسم الثفني لنصفي الدماغ بالتواصل مع بعضهما، وبمعالجة المعلومات بين جانبي الدماغ ومشاركتها مع الجانب الآخر.

وتتراكم الأدلة بشكل مضطرد على وجود عجز كبير في الاتصال بين جانبي الدماغ السليم لدى غالبية الناس، وأنه لا يحدث بشكل تلقائي ومتواصل إلا نادرا، بل يحتاج لإجراءات معينة تسرع التواصل بين جانبي الدماغ. وهذا الفصل والتكامل بين جانبي الدماغ مما يميز شخصيات الناس ومما يفسر مواقفهم الاجتماعية، ومما يفسر الكثير من القرارات اليومية. ويمكن للمتخصصين الحكم على مصدر كل موقف أو قرار من أي جانبي الدماغ جاء. وهذا مما قامت عليه دراسات الدكتور فريدريك بريمر الذي لاحظ أثر التواصل بن جانبي الدماغ، وكتب منذ سنوات أن الجسم الثفني "يخدم أعلى أنشطة الدماغ وأكثرها تفصيلاً، ألا وهو الإبداع"

ونظرا للدور المختلف لكل من جانبي الدماغ، فقد يكمن جزء مهم من تطور الإبداع في فعالية التواصل بين جانبي الدماغ وسرعة وسهولة هذا التواصل وبالتالي تكامل ودمج ذلك النوعين من وظائف جانبي الدماغ. وقد أظهرت دراسات التصوير الوظيفي للدماغ أن الأشخاص المبدعين والناجحين يستخدمون نصفي الدماغ بطريقة أكثر تكاملا سلاسة من بقية الناس. وبعد وفاة ألبرت أينشتاين وجد من تشريح دماغه أنه من هذه الفئة. ووجدت دراسة أجرتها كلية الطب بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس عام 2012 أن الجسم الثفني أقوى وأثخن وأكثر توصيلا للنبضات والإشارات العصبية لدى الذين يكثرون من ممارسات وتمارين التأمل.

وتفيد الدراسات التي أجريت على حيوانات التجارب، ومما لوحظ في بعض الحالات المرضية لأدمغة البشر أنه إذا فصل النصف الأيمن بطريقة ما عن النصف الأيسر اقتصرت أنماط التفكير المتخصصة على نمط كل نصف على حدة، واستبعدت الحلول الخيالية و "الأفكار الناعمة " والأحلام والأفكار "غير المنطقية". كما تشي الكثير من الدلائل بأن الأشخاص المبدعين يراوحون الذهاب والإياب بين هذه الأنماط المتخصصة في جانبي الدماغ بسهولة أكبر، ويبتكرون حلولا إبداعية للمشكلات التي يظهر للأخرين أنها صعبة الحل.

ولطالما أثبت علماء الأعصاب أن تكرار التمارين الجسدية المتقاطعة بين جانبي الجسم تساعد نصفي الدماغ على التواصل والتنسيق بينهما، وأن تكرار هذه التمارين يحفز النبضات الكهربائية والتي تشير إلى مرور الرسائل والمعلومات بين جانبي الدماغ. وفي المقابل، وأنه كلما زاد اتصال نصفي الدماغ أصبح أداء تلك الحركات أسهل. ومن التمارين التي ثبت أنها تحسن التواصل بين جانبي الدماغ تمرين "الزحف المتقاطع" وهو شكل من حركات الجسم المتقاطعة بين جانبي الجسم (مثل الزحف على الركبتين واليدين، ولمس مفصل الركبة الأيمن بالمرفق الأيسر.... وما شابههما) ومن أمثلة هذه التمارين أيضا السباحة حيث تتبادل أطراف الجسم الأربعة الحركة بالتقاطع بينها، وتنسيق حركة الذراع اليمنى مع الساق اليسرى، ثم الذراع اليسرى مع الساق اليمنى. وهذه الحركات المتقاطعة بين جانبي الجسم لا تحسن التواصل بين جانبي الدماغ فحسب، بل تساعد أيضا على تعزيز الأنشطة القائمة على التفكير باستخدام قدرات كلا جانبي الدماغ معا، مثل تسريع تعلم اللغة والقراءة والقدرة على التركيز.

وبتطبيق خواص الرياضات التي تتقاطع فيها حركات جانبي الجسم، فإن ما يحدث أثناء المشي هو تكرار لهذه التبادلية بتأرجح الذراعين بشكل طبيعي، وهذا التأرجح له فهم ميكانيكي، حيث يساعد في تقليل "العزم الزاوي" أو "العزم الحركي" الذي يوازن دوران الجسم ويحسن الاستقرار ويحقق كفاءة الطاقة. ويتضح دور هذا التأرجح في الجري وغيره من الألعاب الرياضية الأكثر حاجة للتوازن وكفاءة الطاقة.

والتأرجح الذي يحدث بتلقائية لدى كل البشر أثناء المشي يحقق تلك التبادلية، إلا أن المشي رياضة أكثر تكرارا وسهولة، ولا تتطلب مهارة ولا تدريبا مع أنها تقدم نفس المفعول في إشراك الجسم الثفني في التواصل بين جانبي الدماغ. ومن الطبيعي أن يتحسن ذلك التواصل والتفاعل الإبداعي بين جانبي الدماغ كلما مشى الإنسان أكثر وفي مشي المسافات الطويلة التي طالما مارسها الإنسان على مدار آلاف السنين. يقول جان جاك روسو، الفيلسوف الفرنسي، يقول في كتابه “الاعتراف”: “أستطيع التفكير والتأمل فقط عندما أمشي. وعندما تتوقف ساقاي عن المشي يتوقف ذهني عن التفكير”

وقد أصبح من المؤكد أن الجسم الثفني يمكنه نقل معلومات عالية المستوى بين جانبي الدماغ تتجاوز الإشارات العصبية الحركية إلى التواصل العصبي المتخصص. وقد خلصت دراسة جامعة ستانفورد الشهيرة التي ربطت بين المشي والإبداع أن 60٪ من الأشخاص الذين يمشون بانتظام أكثر إبداعًا من نظرائهم من غير المشاة.

ومن الباحثين من عزا الإبداع الذي يضيفه الانتظام في المشي إلى تغيير وتحرك الصور من حولنا، وأن تحرك هذه الصور يعزز المهام التي تتطلب إبداعًا متشعبًا مقارنة بما يحدث في حالة التوقف التام للصور من حولنا ومقارنة بسرعة تغير المشاهد من حولنا عندما نتحرك في السيارة أو الدراجة. ومن التفسيرات التي تدعم دور المشي في الإبداع في كلا فصي الدماغ زيادة تدفق الدم والأكسجين بانتظام ووتيرة ثابتة. ومن التفسيرات التي تشرح دور المشي في الإبداع الإيقاع المتواتر والمنتظم لخطواتنا تمامًا كما يمكن للأصوات الجميلة أن تحسن مزاجنا، ويمكن للخطوات الرتيبة أن تحفز وتشكل أفكارنا مع إيقاع حوارنا الداخلي. ومن التفسيرات لأيضا أن المشي يجذب بعضا من انتباهنا للاهتمام بتعرجات الطريق ويشتت الانتباه في قشرة الدماغ الجبهية (prefrontal cortex) المسؤولة عن ترتيب وتدفق المعلومات، وبالتالي يسمح لأفكار جديدة أو بديلة بالتسلل نحو إدراكنا. ويضاف لذلك تحسين المشي للحالة المزاجية التي تدفعنا لاستكشاف مفاهيم أفضل في التفكير.

كما أن المشي يحفز المرونة والتواصل العصبي بين خلايا الدماغ في مناطق ومراكز مختلفة في كلا جانبي الدماغ. كما ثبت أن تكرار المشي يزيد حجم وتطور عمل الحُصين (hippocampus) الذي يتخصص في التعلم والذاكرة وتطوير اللغة، ويحفز نمو الخلايا العصبية الجديدة فيه. كما يقي الانتظام في المشي من شيخوخة أنسجة المخ.

المشي استراتيجية موثوقة وسهلة وفعالة لتحفيز نمو عقلك وتطوير تفكيرك وإبداعك، ويوصلك إلى ذروة أدائك العقلي وتناغم نصفي دماغك. لذلك أكثر من المشي تلك القدرة المعجزة لكي تطور دماغك، ذلك العضو المبهر في إعجازه وعظمة خلقه.

ودمتم سالمين

 

د. صالح بن سعد الأنصاري

 

مستشار الصحة العامة وخبير تعزيز الصحة

المشرف على مركز تعزيز الصحة بالرياض

كلمات البحث
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook