الجمعة، 19 رمضان 1445 ، 29 مارس 2024

أعلن معنا

اتصل بنا

لَيلةُ الختْمةِ في الجَامعِ الكَبير

أ أ
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook
الليلةُ ليلةُ السابع والعشرينَ من رمضان .. والإمامُ سماحة المفتي .. المناسبةُ هي ختم القرآن .. والجامعُ هو الجامع الكبير بالرياض .. قُبيل أذان العشاء مشهدُ الناس زرافاتٍ إلى المسجد يأخذ بالألباب .. ثلاثةُ إخوة مجتمعين لا تكاد تعرفُ الأكبرَ فيهم سنّا .. ومتزوجٌ حديثا ممسكٌ بيد زوجته .. أبٌ يمشي مع طفليه .. وعاملٌ غريب لتوّه فرغَ من وضوءه يسلتُ الماء عن ذراعيه .. ولدٌ صالح يدفع والده المسنّ على عربة متحركة .. وثلاثُ نسوةٍ من عجائز الرياض يمشينَ بتؤدةٍ تشكُّ معها هل يمكنهنّ إدراكُ الصلاة .. وطوائفُ أخرى متفرقةٌ من الصغارِ والكبار .. كلّهم اختاروا أن يشهدوا هذه الليلةَ تحديداً هناك .. ليلة سبع وعشرين .. ليلةٌ هادئة بلْجة .. يخفّ بها زحامُ الطرقات .. ويهدأُ ضجيجُ الأسواق .. يكادُ يجزم الصالحون من أهلِ الجامع والأحياء المجاورة أنها ليلة القدر .. ويحلفُ شيخهم أبي بن كعب رضي الله عنه على ذلك .. يَغتسلون لها ويتطيبون .. يُمسكون بها ألسنتهم عمّا سوى الذكر .. ولا تكفّ أيديهم فيها عن صدقة .. وتكون هي ليلة ختم القرآن .. وإمامُ الجامع هو حفيدُ إمام الدعوة .. كبيرُ العلماءِ وأقربُهم إلى النَّاس .. يلزمُ الجامعَ طيلة الشهر .. هذا دأبُه على مرّ السنين .. لم تمنعْه عن إمامةِ الجامع مهامّه العظام .. يؤمّ الناس بعيدا عن عيون الإعلام .. ولا يخلط جلالَ الصلاة والوقوف بين يدي الله بأيّ شيء من وعظٍ أو حديث أو نقاشات .. حين تُصلّي خلفه تدركُ أنك تصلي خلفَ عالمٍ لا تغيبُ عن فهمِه الآيات .. يتلو بصوته الرتيب .. فلا طنطنةُ مكبرات الصوت .. ولا ضجيجُ المحْدثين وعويلُهم .. يُطيل القراءة على النهج الأول ويقصرُ الدعاء .. تسمعُ في صوته البكاءَ وفي دعائه اليقين .. وقد خَلفت بزماننا خُلوف .. يَنقرون الصلاةَ في دقائقَ .. ثم يدعون دعاء طويلاً طويلا .. تَعرفُ منه وتُنكر .. ينوحون فيه نواح الثكلى .. و يُرضون به رغباتِ الجمهور .. والجامعُ الكبير هو قلْبُ الرياض ورُوحها .. يتّسعُ لأكثرَ من سبعة عشر ألف مصلّ .. عُمره بعمرِ القُرون .. و له مئذنتان رفيعتان .. لهما لونُ الوطن وشموخُه .. بنايةُ المسجد والملحقات حوله تبعث في قلبك الرهبةَ .. وفي نفسِك الخشوع .. الجدرانُ الرفيعة تنْظمها مربعاتٌ حجرية.. والساحاتُ الواسعة تتخلّلها حدائق مشجرة .. والإضاءات الصفراءُ الحالمةُ كأنوار الفوانيس .. ودكاكينُ صغيرةٌ إلى جوار المسجد تماما بقيتْ تحفظ حكايات الماضي .. وتذكّر بالمأثور" فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ...." والساحة الشرقية التي تُقام فيها حدود الله .. وحرم الجامع من كل اتجاه خالٍ إلا من ذكر الله .. لا يكدّر صفوه جوازُ امرأةٍ سافرة .. ولا تعلّق عبيد بقبر أو ضريح .. وذكرياتُ الأماكن المجاورة "المصمكِ والثميري و العطائف" .. تنْضحُ بالطهر .. وتهدي العبرةَ للزائرين .. حتى إذا دخلتَ بوابةَ المسجد .. وتجاوزتَ الرّواقَ إلى المصلّى .. غمركَ من جَلال الوحي نورٌ .. وأظلّتك من سماء الشوق سَكِينة .. التوحيدُ الخالصُ الذي لم تعكّره شائبة شرك .. والسنّة التي لم يخالطْها قذى بدعة .. والجلالُ العظيم لبيوت الله .. يتمثل في طهارةِ الأرض وجمالِ الجدران .. وفي ارتفاع السقفِ وحسن التهوية .. وفي اكتمالِ الخدمةِ حتّى لا تكادُ تجد لك موضعاً فيه تتمنّى أن يكون منهُ إلى الأحسن .. البواباتُ الخشبية الجميلةُ التي تلج بك إلى الداخل .. والسواري المنتظمةُ في الصفوف تتّزر برخام أبيض .. وتحملُ على أكتافها موصولاتٍ خشبيةً .. والسجّاد الذي يزهو بلون الماضي وجدّة الحاضر .. وعَرْف البخور الذي لا تخطئه الأنوف .. جمالُ بناءٍ يختلفُ عن بناء العثمانيين .. وقلةُ نقوش وزخرفة .. لفتت انتباهَ الرحّالة فشبّهوه بمساجد بني أميةَ بالأندلس .. وتاريخٌ طويلٌ وأحداثٌ لقادة ارتبطتْ حياتُهم بالمساجدِ وعمروها بالطاعات .. فقد اتّخذ الإمام تركي بن عبد الله له باباً جنوبي الجامع جهة القبلة ليمنعه من تخطي رقاب الناس .. وباسمه سُمّي الجامع .. وكان ابنه الإمامُ فيصلُ يصلي الجمعة بخلوةٍ صغيرة قربَ المنارة فوق السطح .. ثمّ اتخذ ممراً طويلا مسقوفا محمولا على عدد من الأعمدة يَصلُ بين الجامع وقصرِ الحكم .. وبعدهما جاء الملكُ المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن و كان مُصلّاه بقبلة الجامع ممتداً بقدر اتساعهِ بشكلِ صفين طويلين يصلُ إليه بواسطة جسرٍ مرتفع .. ويُصلي معه فيه أبناءُ الأسرةِ المالكة .. في اعتدادٍ بإعلان إقامةِ الصلاة .. وارتباطِ الملك بالإسلام .. ثم صُلّيتْ به أوّلُ جمعة وقد دخلت إليه الكهرباءُ وفُرش بالحصباء .. بحضورِ سعود بن عبد العزيز .. ثم تمّ افتتاحه ببنائه الحديث في عهدِ فهدِ بن عبد العزيز .. وبرعاية من أمير الرياض سلمان .. ولم يزلْ في اهتمام الملوكِ والأمراء .. لا تطرفُ عنه العينُ ولا يغيبُ الفؤاد .. لقد صلّى بهذا الجامع ولا يزال أقوامٌ يُستسقى بهم الغمامُ .. وأقيمتْ فيه حلق ودروسٌ وندوات .. وسُكبت به عبرات .. وبُذلت صدقات .. وكان به مشهدُ الوداع لملوكٍ وأمراء .. وعلماءَ ووزراء .. عاشوا حيناً من الدهر .. وقبل أن يوسّدوا الثرى مرّوا من هذا المكان ! صوتُ "ابن ماجد" يؤذّن .. وقوامُ "سماحة المفتي" الطويل يتقدم المصلين .. وضجيجُ الناس بالتهليل أدبارَ الصلوات .. وكثيرٌ من غرامٍ .. تدركه العينُ .. وتعجزُ عن وصفِه الحروف .. أيّها الجامعُ الكبير : ولو أَنشدوا بالأزهر .. أو كَتبوا عن ا لأموي .. أو وثّقوا تاريخ الزيتونة .. فإنّ لمقامكَ في تاريخنا عزّ الحضور .. وما أنت في الجلال بمسبوقِ ولا مكبور .. وليلةُ ختم القرآن فيك لا تشبهها الليالي .. ولا تعدلُها الشهور .. وينتهي مشهدُ الختمة بصورةِ سماحة المفتي بعد الصلاة وهو يقطع الجامع بطوله .. يغادرُ المحرابَ إلى المعتكف .. وحوله ظلّةٌ من الناس يسلّمون ويستفتون .. يُظهرون الحفاوة بالإمام .. والبشر بختم القرآن .. وهو يبادلهم التهنئةَ ويدعوا لهم بالخيرِ والقبول .. يا ربّ .. إنه مكان لم يتدنّس بشركٍ ولم تخالطْه بدعة .. ويا ربّ .. إنها ليلةُ سبع وعشرين .. وإنه دعاءُ ختم القرآن .. وإنهم عبيدُك الصالحون .. فأجب يا رب الدعوات .. وأقل العثرات .. واحفظ على هذه البلاد دينها وأمنها .. وأدم عليها نعمتك .. وانصر بها الدين .. آمين .. آمين .. آمين .. طالب بن عبد الله آل طالب الـــــقاضي بمــــحكمة جدة رمـــــضـــــان1432 اضافة اعلان
كلمات البحث
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook