الثلاثاء، 09 رمضان 1445 ، 19 مارس 2024

أعلن معنا

اتصل بنا

المتسولون الأثرياء

تنزيل (1)
أ أ
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook

أصبح "التسول" اليوم باباً من أبواب الحصول على الأموال الوفيرة دون جهد حقيقي فعّال، و"التسول" من حيث هو يعدّ اختياراً وتفضيلاً شخصياً "سيئاً" يقوم على الرضا بأن يكون المرء دوماً هو اليد السفلى، ويكون الناس أياً كانت أحوالهم المادية هم "اليد العليا"!

اضافة اعلان

وحين يبدأ المرء في وظيفة "التسول" تلك، يجد صعوبة وعسراً، ومشقة وعنتاً، وتراه وقد غشيه الحياء، وجلله الخجل، وشعر بالمهانة، غير أنه مع الاعتياد تتغير تلك المشاعر ويصبح التسوّل سلوكاً مقبولاً لديه، ويعتبر الحصول على الأموال من خلاله إليه أيسر وأهون وأحبّ إليه من الحصول على المال من خلال الكدّ والجهد، والحرفة الشريفة التي يعمل فيها لتحقيق الدخل.

والتسوّل - بهذه الطريقة التي نراها اليوم-  ليس لحجم الدخل المتوقّع منه سقف محدد، وليس هناك رقم يعتبره المتسول هدفاً يتوقف التسول بعد إكماله، بل إنه – ومع مضي الوقت - يصبح ذا خبرة كبيرة ومتخصصة يعرف بموجبها "الأماكن"، و"الأشخاص"، و"الأوقات" التي يمكن فيها ومعها الحصول على الكمّ الأكبر من المال، كما يتعرّف المتسوّل – تدريجياً - على أساليب التأثير الأكثر نجاعة حسب الفئة المستهدفة من الناس.

وتثبت حالة القبض مرة بعد أخرى أن لدى جملة من هؤلاء المتسولين أموالاً وأملاكاً طائلة، وأن الأمر ليس حاجة حقيقية، بل أسلوباً في جمع الثروة أحياناً.

ولأن التسوّل عملية غير نظامية، فلا يمكن معرفة حجم المبالغ التي يقوم المتسولون بجمعها، ولا عدد المتسولين من الأسرة الواحدة، ولا أوقات التسول التي يمضونها، ولا أين تذهب تلك الأموال، ولا عن كيفية إدارة عملية التسول بحدّ ذاتها، ومن يقف وراءها؟، كما أنه ليس من المعروف كيف يتم توزيع المتسولين على مواقع التسوّل ولا الطرق التي يسلكها المتسولون من منازلهم أو مواقع تجمعهم إلى مواقع جمع الأموال.

كما أنه ليس هناك ما يثبت العلاقة "الحقيقية" بين أولئك المتسولين وبين الأطفال المعاقين أو المرضى الذين يرافقونهم، كما أنه لا يمكن التحقق من صحة الأوراق والتقارير المرفقة التي يعرضها كل متسوّل، خصوصاً أن الأمر يعتمد على لحظات سريعة يمضيها المتسوّل عند كل معطي، بل إنه ليتضح -أحياناً- من بعض تلك الأوراق أن المتسول قد أمضى سنين طويلة في هذا العمل، فالشهادات المعطاة له هي صور مستنسخة، تحمل تواريخ قديمة، ومعدّلة، وهي غير قابلة للتحقق والاستيثاق منها.

إن إعطاء السائلين بحقّ، والوقوف مع المكروبين، وسدَ حاجات المحتاجين، وإغاثة الملهوفين، وعلاج المرضى، ومساعدة المعوزين، أمر جليل القدر، عظيم الأجر، وهو من أعظم القربات عند الله، بل هو سبيل من سبل تكفير الخطيئات ورفعة الدرجات، ويهمّني التأكيد هنا على أهمية الوصيّة بالضعفاء الحقيقيين خيراً، لذا فإنني أدعو إلى توسيع نطاق الدعم للمحتاجين بما يرفع عنهم العوز والفقر، ويسدّ حاجتهم، مع السعي الجاد لتحويلهم إلى أصحاب حرفة أو وظيفة تغنيهم عن المسألة كلياً متى كان ذلك ممكناً، غير أن هذا الموقف المتعاطف مع المحتاجين شيء، والموقف من المتسولين المجهولين شيء آخر تماماً.

إننا بحاجة إلى مشروع حقيقي، يستهدف التفريق بين ذوي الحاجة والكذابين، ولا أزعم أن لدي حلاً سحرياً يحقق ذلك، لكنني واثق بأن عقول شبابنا ورجالنا ونسائنا – بتوفيق الله – قادرة على إيجاد الحلول المبتكرة، والأفكار الإبداعية التي تسعى للحل، وتحاول تجاوز هذه الإشكاليات التي نراها اليوم.

كما أؤكد على أننا - في الوقت ذاته- بحاجة ماسة لمعرفة الفئات التي تتسول لأنها محتاجة فعلاً، وإيجاد القنوات المناسبة لهؤلاء الذين لا يستطيعون تغطية الحاجات الأساسية للعيش الكريم، والعلاج والتداوي، كما أن من المهم النظر في أحوال إخواننا اللاجئين الذين نجوا من الحروب، ممن لا يمكنهم العودة لبلادهم في الوضع الراهن - كالسوريين واليمنيين والبورميين وغيرهم – لأن أغلبهم غير مشمول بجملة من الخدمات الحكومية بل والخيرية المختلفة، فجمعيات البرّ لا تقدم لهم – غالباً- أي دعم لأن حدود عملها وخدماتها مقتصرة على السعوديين المسجلين فيها والواقعين ضمن نطاقها الجغرافي.

إن "مكافحة التسول" كما أراها اليوم، مجرد هبّات مؤقتة، وحملات قصيرة المدى، لا تلبث أن تتوقف، لتعود جحافل المتسولين إلى مواقعها سالمة غانمة، وتبدأ عملية الاستثمار التسوّلي مرة أخرى، ولا يكون الحل بمجرد انطلاق سيارات المكافحة فحسب، بل يفترض أن يتم التحقيق في وضع المتسولين، ودراسة الأمر من كل نواحيه، ومعرفة مسبباته، فذلك كفيل بإيقاف هذا المظهر المزري للأطفال الصغار الذين يلبسون تلك الملابس الممزقة، والنساء والفتيات اللواتي يقفن على الطرقات، وعند إشارات المرور، في وضع غير آمن لهم وغير آمن للمجتمع من حولهم، وإننا بحاجة إلى وضع حلول جذرية لهم تسدّ حاجاتهم، وتجعلهم يحجمون عن التسول طوعاً أو كرهاً.

وقد كنت – ولا زلت- أقول : إن كان هؤلاء المتسولون محتاجين فعلاً، فلا خير فينا إن لم نقف معهم، وإن كانوا كاذبين فلا خير فينا إن لم نوقفهم.

إننا مطالبون كمجتمع بأن نقوم بواجبنا في كفّ المتسولين عن تسولهم من خلال إعطاء الفقير منهم دون الحاجة إلى ذلّ السؤال، ومن خلال منع المخادعين من استغلال مشاعر الرحمة فينا.

دمتم بخير ،،،

محمد بن سعد العوشن

إعلامي مهتم بتطوير الذات والعمل الخيري

@bin_oshan

كلمات البحث
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook