الجمعة، 19 رمضان 1445 ، 29 مارس 2024

أعلن معنا

اتصل بنا

بروفة موت

فهد بن جابر
أ أ
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook
بسبب ضيق في الجيوب الأنفية لدرجة الانسداد التام لبعضها، تمت قبل أسابيع جدولة عملية جراحية لعلاج الحالة، وكنت (أعتقد أنني مستعد) لها! لَم أُخبر أحداً، حتى لا أروعه، وقمت بتجهيز رسالة على جهازي النقال بنِية إرسالها لمجموعة قليلة من الأصدقاء، مباشرة قبيل التوجه للغرفة العمليات، نَزعتُ ملابسي، لارتداء الخاص منها بالعمليات-لأسباب صحية. قام الممرض بمحاولات فاشلة لإدخال الأنبوبة الضرورية لأكثر من عرق، مما سبب الألم المتواصل، ثم وَصَل من هو أكثر خبرة، لكنه لم ينجح أيضاً، ومع كل محاولة يتم إيقاف خروج الدماء بقطعة لاصقة، بعد عناء استطاع إيجاد المكان المناسب؛ السبب وراء فشلهم، أن الإبرة كانت طويلة، والعروق متعرجة. (بعض التعرجات تعني الحياة كما أن استقامة الخط على الجهاز بجانبي يعني الموت)! وبسبب تأخر موعد إجراء العملية الجراحية، بدأت بالوضوء، وقبل إتمامه، تم طرق الباب ثم فتحه، وكان هناك كادر من ثلاثة أشخاص يريدون أخذي لغرفة العمليات، لم أكن خائفاً البتة-بسبب مروري بعمليات سابقة، ولكنهم كانوا مستعجلين لدرجة أنستني إرسال الرسالة المجهزة، (للأمانة تذكرت نزع الملائكة للروح، بسبب أنك تعتقد استعدادك للموت في أي لحظة، لكنه مع ذلك سيصل فجأة)، ولن تتمكن من أن تصلي ركعة، أو أن تكتب وصية، أو مجرد أن ترسل رسالة مسبقة التجهيز! خففتُ من تشابه الموقفين بتلاوة بعض الآيات، وبسبب كوني ممدداً على ظهري، كنت أتسلى بمحاولة معرفة موقع غرفة العمليات من خلال قراءة اللوحات المعلقة، لم تكن اهتزازات السرير تخيفني، ولا حتى الانعطافات المفاجئة، ولا بعض الاحتكاكات بسبب ضيق الممرات، لكن صوت مرور عجلات السرير على قطع البلاط تشبه لحد كبير صوت دقات القلب، مما سلمني للخوف، وكان مسلسل تتابع الأنوار وانقطاعها على السقف يُذكرني (بسرعة مرور الأيام والليالي)، ذلك الربط أرسلني لعمق الماضي البعيد، ثم إلى تخيُل المصير المجهول. قبل الولوج للغرفة المعدة للعمليات، يتم المرور بعدة محطات، للتأكد من هوية المريض، كُنت أُسأل عن اسمي، ولم يتم انتظار الإجابة، لأنهم يُصدّقون ما تمت كتابته حول معصمي أكثر مني. تعطل نظام الحاسب، الذي بدونه لن يتم إجراء أي عملية، بدأتُ أمِل وأغضب، ثم أتساءل عن التذبذب بين الموقفين، فتارة أرجو البدء في إجراء العملية، وتارة أتمنى التأخير، موقف يشبه الموقف الذي يخشاه الكل. لماذا لا ادخل غرفة العمليات أول شخص؟ سرعان ما أجبت: لوجود حالات أهم. (أنا لستُ مركز الكون)، ولست الأهم في العالم، كنت أريد البدء في إجراء العملية لا غير. بعد قليل، وصل سرير يحملُ طفلاً، وكانا والداه يحاولان التهدئة من روعه، كنت أسمع دون أن أنظر، بعد ارتفاع صوت الطفل بالبكاء، ومحاولة الوالد تهدئته وطمأنته بأنها مجرد دقائق ستمر بدون ألم، حينها بدأت عاطفة الأم تنسلخ عن الموقف المصطنع للثبات، مما زاد الطفل سوءاً، عاد النظام للعمل فجأة، رفعت رأسي لأرى السرير (يُنتزعُ بمن فيه من الأيدي الحنونة)، لن أكذب؛ حينها اقتربت دمعتي صدىً لتلك العاطفة الجياشة. العجيب أن الممرضين كانوا يمارسوا حياتهم بكل أريحية، كانوا يتبادلون النكات، كانوا أيضاً يضحكون، وكأنهم يعملون في ترتيب الفواكه، لا ترتيب البشر لغرفة المجهول، هنا يجب أن أقف موقفين، الأول: (هل أريدهم أن يُعلنوا الحزن لأجلي؟)، ما كل هذه الأنانية؟ بل هو ضيق أفق الوعي. والثاني: (أن الإنسان تحت الضغوط النفسية، يضع عقله جانباً- وإن كان راجحاً)، (يجب ألا تلُم أحداً على سعادته، وإن كانت حياتك تعيسة). كنت أعرف أنه في العادة يتم تقديم الأطفال على غيرهم في إجراء العمليات الجراحية، ومع ذلك تمنيتُ أن اسبقه، لأجل الخلاص من الانتظار الممل. وصل زائر آخر على سريره الأبيض، قلت في نفسي: يجب ألا يتم تقديمه عليّ لأنه ليس طفل، (وتلك شهادة بأنني أنا الطفل)، أليست هناك حالات أخطر من حالتي؟ أليس هناك من يعاني من مرض في قلبه أو ورم في مخه؟ ما كل هذه الأنانية، تراجعت عن الموقف، وسألت الله أن يتم تقديم كل محتاج، حتى وإن زاد وقت الانتظار، (ربما كان الخوف السبب لا الرحمة ولا الإيثار). قَطعتْ عودة الولدان حبال أفكاري المتشابكة، كانوا يسألون عن ابنهم؟ لم يُمضوا خمس دقائق! يا الله ما أرحمَهُم. واصل جديد، ومغادر جديد، كانت (تلك الغرفة منطقة تشبه محطات القطار) التي زرتها في لندن؛ وجهات مختلفة، أناس تدخل، وأناس تخرج. منهم الذي نجحت عمليته، ومنهم من مات، لم نتفكر فيما يُشبه ذلك الموقف، مما نمارسه كل يوم؛ ننام ثم نحيا. أمّا هنا فالشبه أكبر: لباسنا مشترك وكأنه (كفن)، نتوجه بعد لبسه للمصير المجهول. خرج الطفل بعد ما يقارب الساعة. رغم استعدادي للموت، إلّا أنني (تفاجأت بسرعة أخذي) للغرفة المجهزة، تم نقلي كميتٍ من سريري إلى السرير المخصص، (لَم يُطلب مني ما أجيد فعله)! أكثر ما يميز السرير الموقع الجديد الأنوار الساطعة أعلاه، تم تركيب مستشعرات أجهزة قياس سرعة النبض، ووصل طبيب التخدير الذي سألني عن حالي، أجبته بثقة-على الأقل كما أعتقد. وضع الكمام الخاص بالتخدير وهو يقول هذا أكسجين، ابتسمت لمعرفتي بأنه لم يقُل الحقيقة، كان صوته واضحاً في تحديد نوع وكميات المواد التي تم حقنها في وريدي، كانت (باردة كليل شتاء) تتغلغل في جسدي الذي يحاول أن يبقى دافئاً، بدأت الأنوار تخفُت، كنت أحاول أثناء التنفس أن أُتم قراءة الفاتحة، قاطعني الطبيب بطلب التنفس بعمق، فعلتها.... لكن جميع أجهزتي بدأت تثقل، عقلاً وتنفساً، وبدأتُ رحلة قصيرة، كأنها سنة، (حاولت أن أتذكر شيء أقصر من الفاتحة) وأنا أُطمئِن نفسي "لن أنام إلّا برغبتي" باغتني الإغماء، خبت وخفتت ثم اختفت الأضواء التي كانت تكفي لإضاءة ملعب كرة، أردت أن أنادي أرجوك أريد أن (أُكمل الشهادة)، تنازلتُ عن الفاتحة، أريدُ أن تلغى فكرة العملية، أريد فقط أن أتشهد، لكن الاختناق وآلم في الصدر منعني من أي مقاومة، كان آخر ما سمعته؛ صوت جهازٍ تتسارع نغماته وكأنها (تُنبئ عن خطأ)، إما في كمية المخدر، أو توصيلات أجهزة القلب. هل كانت تتسارع أم أن مقاييس الزمن تختلف حسب الموقف! لم يكن هناك سوى رغبتي في التنفس والتشبث بالحياة، لم أعد أريد إجراء العمـــ.... ... يا الله كم أنت رحيم بعبادك، (أليست سرعة التخدير رحمة)؟ أليس الله أرحم بأنفسنا منّا، ومن تلك الأم بابنها؟ يا للخيبة (عند المحكات الحقيقة يظهر الضعف البشري). استيقاظ على مراحل، عجزٌ عن الكلام لطلب الماء، جفّ فمي بسبب التنفس عن طريقه، فقد كانت فتحات الأنف محشوة بمادة لإيقاف النزيف، ثم الاستسلام للمخدر. استيقاظ آخر، لأرى الدماء، (الحمد لله)؛ لم أمُت، أجدُ صعوبة في التنفس رغم نجاح العملية، كم أنت تافه أيها الإنسان أمام قطعتان من النسيج اللحمي لا يتعدى طولهما 5 سم، وُضعتا في عبوة بجانب سريري، كأنها تقول: (لا تحقر صغري)، فقد كدت أن أقتلك! يعقبها صعوبة التنسيق بين التنفس والأكل أو الشرب، تذكرتُ إرسال الرسالة، حاولت الوصول لجهازي النقال، إلا أن المخدر أعاقني، مما جعلني أرتطم بالأرض. لولا (لطف الله) الذي منع ارتطام أنفي المحتوي على جسور بلاستيكية، لكانت مصيبة. أخذت جهازي الجوال وأرسلت الرسالة خطأً إلى كل جهات الاتصال. (تأثرت الأسرة كثيراً)، ووصلت الكثير من الردود. الكثير ممن كنت أتوقع منهم على الأقل مجرد رسالة -ولو من باب المجاملة-لم يفعل. (يجب إعادة الكثير من الحسابات)! كنتُ أحاول جاهداً أن ارتدي ملابسي، واجهت المصاعب، كأنني عُدت طفلاً، فلله الحمد على ما (اعتدناها من نعم، فنسينا شكرها). ثلاث ساعات بعد العملية كانت كفيلة لكُره الاستلقاء على ظهري، تساءلتُ عمّن أتم أشهراً على ذلك الحال. الحمد لله أخرى وأخرى. طلبتُ من الطبيب السماح لي بالخروج، فأبى إلا بعد ثلاثة أيام، أخبرته أنني سأخرج، وإن استدعى الأمر أن أزحف. لهذه اللحظة والدماء تنزف لمجرد حركة أو عطسة أو مجرد وقوف أو سجود. الحمد لله على نعمه التي لا تحصى، وعلى رحمته ولطفه. نقطة أخرى مهمة لمن يتفانى في عمله على حساب صحته وأسرته؛ أُمرنا بإتقان العمل، لكننا لم نُؤمر بإهمال صحتنا وأُسرنا لأجله، (سيسير العمل، ولن يتوقف على شخصك، ركِّز على ما يُهمك ومن يهتم لأمرك). فهد بن جابر @FahdBinJaberاضافة اعلان
كلمات البحث
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook