السبت، 11 شوال 1445 ، 20 أبريل 2024

أعلن معنا

اتصل بنا

خَشْيةُ السموات

أ أ
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook

قال صلى الله عليـه وسلم: "إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلَّم بالوحي أخذتِ السموات منهُ رجفة – أو قال[1] - رعدة شديدة خوفاً من الله عز وجل، فإذا سمع ذلك أهلُ السموات صعقوا وخرُّوا للهِ سُجَّداً، فيكون أول من يرفع رأسهُ جبريل، فيكلمه الله من وحيهِ بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مرَّ بسماء سألهُ ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: "قال الحق وهو العلِّيُ الكبير". فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيثُ أمرهُ الله عز وجل".[2]

اضافة اعلان

قال الشارح: "أي إذا سمعت كلام الله يصيبها خوف وهيبة لكلام الله، وهذا فيهِ: أن الجمادات تدرك عظمة ربها، وتسبِّحه، وتعظِّمه كما قال سبحانه وتعالى: (تُسَبِّحُ لَهُ السموات السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ)، (تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ)، وكما في قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)، في هذا: أن السموات والأرض تتكلم، وأنها تُسبِّح... ".[3]

و"صعقوا" بمعنى: أنهم يُغشى عليهم من الخوف من الله عز وجل والهيبة والجلال. "وخرُّوا لله" أي؛ أنهم ينحطُّون لله "سُجَّداً" على وجوههم تعظيماً لله وتعبداً لله... وفي هذا دليل على أن الملائكة عباد لله، يخافونهُ ويهابونه.[4]

وفي الحديثِ الآخر دلالةٌ على كيفيةِ استقبالِ سُكَّان السموات للوحي أو الأمر الإلهي، قال صلى الله عليـه وسلم: "إذا قضى اللهُ الأمرَ في السماءِ، ضربتِ الملائكةُ بأجنحتِها خُضعاناً لقولِه، كأنَّهُ سلسلةٌ على صفوانٍ - قال عليٌّ: وقال غيرُه: صفوانٍ يَنْفُذُهُمْ ذلك - فإذا: فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الحَقَّ وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ".[5]

قال الشارح: "إذا قضى الله الأمر"؛ معناهُ "إذا تكلَّم الله بالوحي".

وقوله: "ضربت الملائكة بأجنحتها"؛ الملائكة من أعظم المخلوقات، لا يعلم عِظَم خِلْقة الملائكة إلا الله سبحانه وتعالى... وهم مع قوَّتهم وعِظَم خِلقتهم يخافون من الله سبحانه وتعالى؛ إذا سمعوا كلامه ضربوا بأجنحتهم.[6]

"خضعاناً"؛ أي لأجلِ الخضوع لله، وتعظيماً له، وخوفاً منهُ عز وجل.[7]

"لقوله"؛ أي لقول الله سبحانهُ وتعالى، فيه إثباتُ القول لله، وإثبات الكلام لله جل وعلا، وأنَّهُ يتكلَّمُ كما يليقُ بجلالهِ سبحانه وتعالى، كلاماً يُسمَع، تسمعه الملائكة، ويسمعه جبريل، وإذا سمعه الملائكة أصابهم هذا الرُّعب والخوف من الله.[8] "كأنهُ"؛ أي كأن قوله تعالى وتكَلُّمهُ سبحانهُ بالوحي.[9] "سلسلة على صفوان"؛ تشبيه لصوتِ الوحي الذي يأتي إلى المَلَك، أو صوت المَلَك نفسه بصوتِ السلسلة إذا جُرَّت على حجرٍ أمْلَس.[10] "ينفذهم ذلك"؛ أي أن كلام الله يبلغُ إلى قلوبهم فيخافون.[11] (حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ)؛ أي أزيل عنها الفزع، تساءلوا بينهم: ماذا قال ربكم؟. [12] (قَالُوا الْحَقَّ)؛ أي قال بعضهم لبعض: قال الله الحق؛ لأن كلامُهُ حق سبحانه وتعالى.[13]

وإنَّ من الإيمانِ أن يخشى المرءُ ربَّهُ ويرهبهُ ويخافُهُ، قال سبحانه في معرِضِ الخطابِ لبني إسرائيل: (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)، (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ). وقال سبحانه: (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ). وقال تبارك يبيِّنُ عاقبة تلك العِبادة القلبية العظيمة – الخشية والتقوى -:(وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ).

وأما سبيلُ ذلك ووسيلتُهُ الأساس[14] الموصلة؛ بأن يعرف المرءُ ربَّهُ عز وجل بأسمائه وأفعالهِ وصفاته؛ فيورثهُ ذلك تعظيماً ومهابة لله تعالى.

يقول ابن القيم رحمهُ الله في معرِض حديثه عن مقتضيات الأسماء الحسنى وآثارها على العبد: "وكذلك معرفته بجلال الله وعظمته وعزِّهِ تثمر له الخضوع والاستكانة والمحبة، وتثمر له تلك الأحوال الباطنة أنواعاً من العبودية الظاهرة هي موجباتها".[15]

لذا لما كانت معرفة الملائكة والأنبياء بربهم أتم وأكمل من غيرهم حصلت منهم ألوان العبودية الحقة لله عز وجل؛ فالملائكة تضرب بأجنحتها خضعاناً لقوله سبحانه وتعالى..

وأنبياءُ اللهِ كذلك: فمثلاً؛ نبيُّ الله نوح عليه السلام يتوجه إلى ربِّه بالسؤال: (وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ)، فيأتيهِ الرد من الخالقِ العزيز الحكيم: (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ). فما يكونُ إلا الإذعان والتسليم المطلق من نبيِّ الله نوح عليه السلام: (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌۖ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ).

 - ويتوجه الأمر إلى خليلِ الرحمن إبراهيم عليه السلام: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْۖ)، فيستعلِنُ بلا تردد: (قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ). – لقد ورد الأمرُ الإلهي، والتسليم من خليلهِ إبراهيم في آيةٍ واحدة لمن شاءَ تأملاً! - ..

إن سرعةَ الانقيادِ وإحسانِ الامتثال لأوامر الربِّ جلَّ جلالُهُ، مبعثهما الإيمانُ الصادق ومعرفةُ الجليل سبحانه وتعالى، وإجلالُهُ، وتعظيمٌ هو أصلُ الدينِ وأساسُهُ ومبناه. يقولُ الإمام السعدي رحمهُ الله: "فإن الاستهزاء بالله ورسوله كفر مخرج عن الدين؛ لأن أصل الدين مبنيٌّ على تعظيم الله، وتعظيم دينه، ورسله. والاستهزاء بشيء من ذلك مناف لهذا الأصل، ومناقض له أشد المناقضة".[16]

 - ونبينا المصطفى أحمد صلى الله عليـه وسلم، يخاطبهُ الوحي: (فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَۚ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)، فيجيبُ مذعناً بلا تردد: "لا أشكُّ ولا أسأل".[17]

وأمثلة الصالحين تخرج عن الحصر..!.. تلك آدابُ كِرامِ الخلق مع ربهم عز وجل..

وآدابُ نوعٍ من المخلوقاتِ عظيم – السمواتُ الشِّداد -:(وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً)..

فما هي آدابُ أناسِيِّ زماننا؟!.. وقد برزَ فئامٌ من الناسِ يجادلون في الوحي ويقدمون بين يدي الله ورسولِه الآراء والأقاويل والخلاف؟!. في تخالُفٍ ظاهر بين مسلكِ الأخلافِ والأسلاف.

ففي حين كان حرصُ الأسلاف رحمهم الله، على الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله ممتثلين كلام ربهم عز وجل، - والأفئدة والأركان منهم خاشعة خاضعةً وجِلة -:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)، نجد الأخلافَ – إلا من رحم الله - يصدرون عن الكتاب والسنةِ إلى الخلاف!. مع أن القاعدة الأصولية تقرر أن: (العمل بالراجح واجبٌ لا راجح).

فأين خُضعان كخضعانِ الملائكة عند استقبالنا للوحي؟!.

وأين إذعان وتسليم كتسليمِ أنبياءِ الله ورُسُله؟!.

لا بد من استسلام وتسليم وانقياد وخضوع كما يُحبُّهُ الربُّ منا ويرضاهُ عز وجل. قال تعالى: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَاۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، وقال سبحانهُ: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاًۗ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً).

إن مثلَ أولاءِ كمثلِ والدٍ لهُ بنونَ أراد أن يمتحنهم؛ فعهِد إليهم بوصيَّةٍ وأمهلهم زمناً معلوماً عنده. فلما تفرقوا عنه؛ منهم من رأى الأخذ بالوصيةِ كما هي وما استشكل عليه تركه!. ومنهم من راقَ لهُ الأخذ بآراء شتى لأناسٍ كُثر، كل يدلي برأيٍ وتأويلِ لوصيةِ الوالد. ومنهم من أخذ بالوصيةِ كما هي، وما أشكلَ عليه منها التمسَ قول الأثبات أولي الرسوخ في العِلم والخِبرةِ والحِجا حائداً إلى الأورع الأقرب للصواب.. ومنهم من فرَّط ولم يلقِ للوصيةِ بالاً!..

فلما اجتمعوا عندهُ في الزمنِ المضروب وصار لهُ العِلمَ بمسالكهم، قال للأوْلَيَان: فما منعكما أن ترجعا إلي فتفيدا علماً برجوعكما إلى المصدر – هلَّا سألتماني - ؟!. وحَمِدَ الثالثَ، وعاقب رابعهم..!

 - ولله المثل الأعلى سبحانه -

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليـه وسلم: "تجيءُ الأعمالُ يومَ القيامةِ، فتَجيءُ الصَّلاةُ، فتَقولُ: يا ربِّ، أَنا الصَّلاةُ، فيقولُ: إنَّكِ علَى خيرٍ، فتجيءُ الصَّدقةُ، فتَقولُ: يا ربِّ، أَنا الصَّدقةُ، فَيقولُ: إنَّكِ علَى خيرٍ، ثمَّ يجيءُ الصِّيامُ، فيقولُ أي يا رَبِّ، أَنا الصِّيامُ، فيَقولُ: إنَّكَ علَى خيرٍ، ثمَّ تجيءُ الأعمالُ على ذلِكَ، فيقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: إنَّكِ علَى خيرٍ، ثمَّ يجيءُ الإسلامُ، فيقولُ يا ربِّ، أنتَ السَّلامُ، وأَنا الإسلامُ، فيقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ إنَّكَ على خيرٍ، بِكَ اليومَ آخُذُ، وبِكَ أُعطي، فقالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ في كتابِهِ: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)".[18]

ختاماً.. قالتِ السمواتُ والأرض: (أَتَيْنَا طَائِعِينَ).

فهلَّا كان قولُ مسلمٍ يحبُّ الله ورسوله.. "رَبِّ أتيتُكَ طائعاً"..

وهلَّا تبوَّأت أعمالُ القلوبِ وعباداتها مكانَ الأولوِيَّةِ في جداول الأعمال المتسارعة بعالمنا المعاصر..

[1] شكٌ من الراوي.

[2] كتاب التوحيد للعلاَّمة محمد بن عبد الوهاب، والحديث أخرجهُ ابن خزيمة في صحيحه وأشار في المقدمة أنه صح وثبت بالإسناد الثابت الصحيح. وقال سماحة العلاّمة ابن عثيمين -رحمهُ الله-: "فيه ضعف وروى مسلم وأحمد حديثا قد يكون شاهدا له".

[3] إعانة المستفيد بشرحِ كتاب التوحيد، لفضيلة العلَّامة صالح الفوزان، ص273

[4] إعانة المستفيد، 275

[5] رواهُ البخاري.

[6] إعانة المستفيد، ص263

[7] المرجع السابق، ص263

[8] المرجع السابق، ص264

[9] المرجع السابق، ص264

[10] المرجع السابق، ص264

[11] المرجع السابق، ص264

[12] المرجع السابق، ص264

[13] المرجع السابق، ص264

[14] جميع الأسباب والوسائل ترجعُ إلى هذا العلم الذي هو أشرف العلوم وأعظهما؛ (الفقه الأكبر) كما يصفهُ أهل العلم من سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى.

[15] أسماء الله الحسنى، ص41

[16] تيسير الكريم الرحمن.

[17] عن قتادة: (فإن كنت في شك مما أنـزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك)، قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا أشك ولا أسأل.راجع تفسير الطبري للآية الكريمة.

[18] رواهُ الإمام أحمد في مُسنده، وقال العلامة أحمد شاكر: إسنادُهُ صحيح.

كلمات البحث
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook