الأربعاء، 15 شوال 1445 ، 24 أبريل 2024

أعلن معنا

اتصل بنا

تدفق أخبار.. وحرق أعمار

أ أ
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook

ذات يوم نشرت مقطعاً صوتيًّا لعالم شرعي يختصر كل دراسات (التعرض للأخبار) في عبارة واحدة: (الأخبار محرقة الأعمار)، وعلقت حينها أني أتفق مع صاحب المقطع وإن كان هو يتحدث من منطلقات شرعية بحتة، فإني كنت أوافقه الرأي لكن من منطلقات إعلامية، وقد تعرضت حينها لردة فعل حادة من بعض القراء الذين فهموا أن مطالبتي للناس بعدم الانشغال بالأخبار، هو دعوة غير مباشرة لتغييب الوعي ولعدم حمل هذه الأمة، ذلك أنهم يرون أن متابعة الأخبار دلالة وعي ونوع من أنواع المشاركة الوجدانية مع المسلمين في كل مكان، ومع حلول ما يسمى بــ( اليوم العالمي للأخبار News Engagement Day) – مع تحفظي على فكرة الأيام العالمية بشكل عام-، فسنحاول في هذه الأسطر أن نناقش

اضافة اعلان

​(لعبة الأخبار) – إن صحت التسمية- من عدة زوايا.

ولنفتتح تحليلنا بـ(الزاوية الشرعية) وما قاله العالم الشرعي في معرض شرحه لدرس عقيدة، إذ إن منطلق هذا التوجيه الشرعي منه كان مرتكزاً على (موقف طالب العلم في الفتن)، حيث كان يرى العالم أنه في زمن الفتن فإن الأولى لطالب العلم أن (يعتزلها) خاصة في فترة تكوينه وبنائه الشرعي والفكري، ووضع قاعدة تطبيقية لكلامه قال فيها: (كل حادثة أو فتنة لا تؤثر فيك، ولا تؤثر فيها فاعتزلها)، وبرر كلامه بحجة عقلية وهي أن (تتبع الأخبار فيه حرق للأعمار) فالأخبار تنتهي بنهاية الحدث، ويصبح الشخص مجرد (مخزن للأحداث التاريخية المتناثرة) التي لا يحتاجها الناس، بينما لو انشغل بطلب العلم والمعرفة فـ(سيحتاجه الناس مدى الدهر) لأنه بات (مخزناً للعلم) الصالح لكل زمان ومكان، وبالتالي سيكون له تأثير وحينها يمكنه أن يطلع على ما يعينه على التأثير من الأخبار.

أما التساؤل الذي وجهه لي بعضهم، وهو محاولة إثبات أن (متابعة الأخبار) كمقدمة، يعني أن (هذا المتابع صادق في انتمائه لأمته وحامل لهمومها) كنتيجة، فقد رد العالِم على التساؤل بأنه يكفي الفرد أن (يقرأ العناوين) ليعرف أحوال الأمة، وأن الخلل كل الخلل في (تتبع تفاصيل وتحليل الأخبار) والبحث عن دقائقها.

ولم يغفل العالِم سمة الآنية التي اتسم بها عصرنا مع التقارب التقني الذي ساهم في (زيادة تدفق الأخبار) بصورة جنونية، وقارنها بالأخبار التي كانت تصل سابقاً بعد انتهاء الحدث وانطفاء الفتن في تلك البلدان.

وهذا الأسلوب الذي أشار له العالِم ليس في السابق فقط، بل نبهتني له إحدى قريباتي (في بريطانيا)، إذ إن الصحف (تتعمد قتل بعض القضايا التي يحتمل أن تشغل الرأي العام) بأن تتحدث عن (وقوعها) بعد (انتهائها بأيام)! فلا يتفاعل معها الناس بمثل التي ما زالت أحداثها قائمة.

إذن يمكننا تلخيص الرؤية الشرعية بحسب رأي العالِم بعد تنزيلها على حال (العوام من غير طلبة العلم)، في أن: (موقف الفرد من الفتن هو اعتزالها)، وأن القاعدة في الاعتزال من عدمه هي أن (كل حادثة أو فتنة لا تؤثر فيك، ولا تؤثر فيها فاعتزلها)، وأن خطورة الأخبار لا تكمن في (معرفة العناوين العامة للأحداث) بل تكمن في التفاصيل التي لا تنتهي، وبالتالي فإن الغرق في هذه التفاصيل تنطبق عليها مقولة (الأخبار محرقة الأعمار).

وبرؤية إعلامية فإني أجد أن كلامه (فيه من الدقة) الكثير، إذ إن لعبة الأخبار عادة تكمن في صياغة التفاصيل، فموظف الصياغة في كل مؤسسة إعلامية يعد الذراع اليمنى لرئيس تحرير المؤسسة، وهو ملم بالقواعد غير المكتوبة للمؤسسة والتي تتعلق بالتوجهات الفكرية والأهداف السياسية والاجتماعية لهذه المؤسسة، لكن أيضاً يجب أن لا نغفل عن أثر العناوين، إذ إن العناوين تعد حجر الزاوية في الأخبار وقراءاتها يجب أن تتم بعناية بحيث ينتزع الشخص منها المعلومة ويعرض عن الرأي، فمثلا لو قيل (وقعت جريمة قتل في مكان كذا بسبب كذا)، فنكتفي بمعرفة الحدث ولا نجزم بالسبب لأنه تحليل للحدث، والتحليل يستلزم معرفة خلفيات الجريمة مما قد لا يحيط به الصحفي ناقل الخبر.

أما حينما ننظر للأمر من (زاوية فكرية)، فحينما نتأمل واقع (صناعة الأخبار) سنجد ما أسماه المفكر عبدالوهاب المسيري بـ (ظاهرة الحقائق الكاذبة true lies) وهي حقائق غير مزيفة ولكنها ليست كاملة، وغالباً ما يتم توظيفها لتبرير السلوكيات الظالمة أو الفساد الإداري، وهذا النوع من الحقائق يشكل عامود من أعمدة التلاعب بالفكر في (لعبة الأخبار) وأحياناً يتم استخدامها في أسلوب (إدارة الأزمة بالأزمة) وهي حيلة غير مهنية لاحتواء بعض المشكلات التي تشغل الرأي العام، وسأفرد عنها مقالاً قادماً بإذن الله إذ لسنا في مقام بسط الحديث فيها.

أما حينما ننظر إلى (لعبة الأخبار) من (زاوية نفسية) فإننا نقف على ساحل لا آخر له من التأثير النفسي المريع الذي قد تورثه الأخبار، والأسوأ أن هذا التأثير قد يكون متعمد!

ومن ذلك ما أورده "يوري بزمينوف " رجل المخابرات السوفيتية KGB الذي هرب إلى أمريكا في السبعينيات في مقابله تلفزيونية شهيرة له بعنوان (عملي كان الخداع)، إذ تحدث بزمينوف عن أسلوب (الأخبار الكاذبة)، والتي تختلف عما تحدث عنه المسيري بكونها (لا تضم أي شكل من الحقائق)، إذ يتم توظيف الأخبار هنا في (حرب نفسية) قذرة لتدمير معنويات الأمم، وهدم العقائد و(التخريب الفكريIdeological subversion)، إذ يقول بزمينوف إن حدوث ذلك يتم بصورة علنية ولا تستلزم منك إلا أن (تفتح عينيك)!

الأسوأ من ذلك أن المخابرات السوفيتية كانت تخصص 85% من موارد الاستخبارات في عملية بطيئة تستغرق من 15-25 سنة لهدم معنويات الأمم، تبدأ بـ(جيل الطلاب) في البلد - الرؤوس الناعمة- وترتكز على (عدم وجود معايير أخلاقية مضادة لها أو حصانة لديهم)، وتهدف هذه العملية إلى (تغيير نظرة الشخص للواقع) لدرجة أنه على الرغم من وفرة المعلومات لا يصبح قادراً على التوصل إلى أية استنتاجات منطقية لمصلحته الشخصية أو مصلحة الدفاع عن نفسه وعائلته ومجتمعه!

وحينما تتأمل واقعنا الحالي ستجد أرتالاً من (المهزومين نفسياً) غير القادرين على تقييم المعلومات الحقيقية بسبب (لعبة الأخبار) التي وظفت سابقاً في هذه الهزيمة، وبعضهم للأسف أصبح يحتل (مناصب رسمية )عليا، وكذلك بعضهم في القطاع التجاري وفي وسائل الإعلام والتعليم، و(مع هؤلاء) لن تستطيع إثبات أن الأبيض أبيض، ولا أن الأسود أسود، فهم يعتمدون في نظرتهم للأمور على (خريطتهم الذهنية) وليس على (الواقع الحقيقي)، حتى لو أنزلت عليه المعلومات والحقائق والبراهين كالمطر مع الوثائق والصور لن يقتنعوا، فالحقائق ببساطة (لا تعني لهم أي شيء)!

ويضاف لكل تلك الفظائع التي تحدث عنها (بزمينوف) عن الأثر النفسي للأخبار، ما تحدثت عنه (فيرا بيفر) - المحللة النفسية- في كتابها (المزيد من التفكير الإيجابي more positive thinking )، إذ ركزت (بيفر) على عدة معطيات تنتهجها (لعبة الأخبار) ولها تأثيرها النفسي المتعلق بـ (تفاقم التشاؤم)، ومنها أن تدفق (الأخبار السلبية) في وسائل الإعلام لا يشكل (الواقع) بل هي (اختيارات) انتقاها أحدهم وقدمها على أنها (الواقع)! والأسوأ أن نقل الأحداث السلبية يتم بطريقة (مقتضبة وفي دقائق قليلة) مما يضيق نافذة الحكم عليها وتحليلها!.

أيضاً ناقشت (بيفر) كون الإنسان يجب أن يكون حذر وأن لا يقع في (شرك الأخبار)، وأن يضع نصب عينه أنه (هو الواقع) وليس ما تحاول (وسائل الإعلام عرضه عليه)، لتختتم توجيهها بتساؤل يتفق مع ما جاء في أول هذا المقال:

(هل من الضروري الاستماع للأخبار في الإذاعة، وقراءة الجرائد، ومشاهدة الأخبار المسائية في التلفاز؟

يجدر بنا الاطلاع على المعلومات ولكن بالتأكيد لست بحاجة لأن تحشو مخك بالصور السلبية)​.​

كلمات البحث
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook