الجمعة، 19 رمضان 1445 ، 29 مارس 2024

أعلن معنا

اتصل بنا

تعليمنا بين النعمة والتهمة

أ أ
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook

في بلادي نشأت أجيال بعد أجيال، وتخرج قادة وسادة، وتولى المناصب والمراكز أصحاب همم وقمم، فازدهرت الوزارات، وتطورت الجامعات، وتوسعت المدارس، وافتتحت كبرى المستشفىات، ورغم التقصير وبعض الخلل الذي لا يخلو منه جهد بشري، هناك خطوات كبيرة، وتقدم ملموس في جميع بلادنا المترامية الأطراف.

اضافة اعلان

كل هذه النهضة العظيمة التي نعيش في أكنافها، ونتفيأ تحت ظلالها، بدأت من بذرة التعليم الأولى التي أينعت وبدت ثمارها صالحة نافعة.

ومما يميز هذه البلاد المباركة أنها نشأت على التوحيد، ورضعت وارتشفت منه حتى سرى في عروقها، مما انعكس على دستور البلاد الذي ارتكز على الكتاب والسنة، فجاء التعليم معتمداً على هذه السياسة الحكيمة، ومنضبطاً بهذا الدستور، فدرج أبناء هذه البلاد ينهلون من معاقل العلم، ويترقون في مدارج التعليم، حتى بلغوا أعلى المراتب وأفضل الدرجات.

وحين استعرض صفحات حياتي منذ بدء دخولي في رياض التعليم الأولية، إلى أن بلغت درجة أستاذ مشارك ولله الحمد، أدرك نعمة التعليم في هذه البلاد، وتميز مناهجه بصفاء العقيدة، وسلامة المنهج، وجمال الآداب والأخلاق، وخير الهدي وأكمله، وأقصد في ذلك مجال العلوم العربية والشرعية.

ومن فضل الله علينا في هذه البلاد أن ما يتعلمه صغار طلابنا من العقيدة والشريعة، يجهله كبار حملة أعلى الشهادات في بعض البلاد.

ومن فضل الله علينا في هذه البلاد أن ما تعلمناه في مناهجنا الشرعية لا تشوبه بدعة ولا تخالطه كدرة، ومن نعمة الله علينا في هذه البلاد أن يقوم التعليم على أساس الفصل بين الذكور والإناث في جميع المراحل دون اختلاط، وهو ما عادت إليه بعض الدول الكبرى لصلاحيته وإدراك محاسنه.

ومن نعمة الله علينا في هذه البلاد أن أساس تعليمنا يقوم على التصور الإسلامي الكامل للكون والإنسان والحياة، وأن الوجود كله خاضع لما سنَّه الله تعالى، ليقوم كل مخلوق بوظيفته دون خلل أو اضطراب، بخلاف التصور المادي والإلحادي للحياة.

ومن فضل الله علينا في هذه البلاد أن العلوم الدينية أساسية في جميع سنوات التعليم الابتدائي والمتوسط والثانوي بفروعه والثقافة الإسلامية مادة أساسية في جميع سنوات التعليم العالي، وهذا هو العلم الواجب على العبد تعلمه، ولا يعذر بجهله. وأن غاية التعليم فهم الإسلام فهماً صحيحاً متكاملاً، وغرس العقيدة الإسلامية ونشرها، وتزويد الطالب بالقيم والتعاليم الإسلامية وبالمثل العليا، وإكسابه المعارف والمهارات المختلفة، وتنمية الاتجاهات السلوكية البناءة، وتطوير المجتمع اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وتهيئة الفرد ليكون عضواً نافعاً في بناء مجتمعه، وهذا ما تحققه الأنشطة اللاصفية وبرامج التوعية الإسلامية.

ومن نعمة الله علينا في هذه البلاد أن من الأسس التي يقوم عليها التعليم، تقرير حق الفتاة في التعليم بما يلائم فطرتها ويعدها لمهمتها في الحياة، على أن يتم هذا بحشمة ووقار، وفي ضوء شريعة الإسلام، فإن النساء شقائق الرجال، وهذا ما تفتقده سياسات التعليم الأخرى، وتغفل عن تقريره، فيزج بالفتاة في ميادين تعليم تخالف فطرتها، وتستهلك أنوثتها.

ومن ثمرات هذا الفضل والنعمة تخرج دعاة وأئمة، وقضاة ومعلمين ووزراء وأطباء ومهندسين وقادة متميزين، ولا زالت الأجيال تتخرج والثمرات تتابع.

وفي سجل التعليم الحافل رجال شرفاء وقادة أمناء، أداروا قيادته، وأحكموا دفته، وضبطوا مساره، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.

وفي ذاكرتي الآن تمر عشرات الأسماء لمديرات فاضلات ومعلمات قديرات، كان لهن بصمات باقية، وكلمات خالدة غيرت مجرى حياتنا، وصححت مسير أهدافنا، فلهن الأجور المضاعفة.

ولا زلت أذكر معلمتي بالصف الأول ونحن نتحلق حولها، نلعب بشعرها، ونلهو بين يديها، وهي تعلمنا بحب وتغمرنا بحنان، ومع بساطة الحياة وتواضع المباني، إلا أننا كنا نفرح ببدء الدراسة ونستعد لها كيوم عيد، ولا أبالغ إن قلت: إن أفضل مكان كنا نذهب إليه المدرسة، حيث المتعة والمرح والفائدة.

كبرنا في مدارسنا وتعلمنا فيها، ولا أذكر خلال مسيرتي العلمية من كان يحرضنا على شر أو يريد بنا سوءاً أو يسعى إلى فتنة، بل كانت الأنشطة المدرسية والإذاعة الصباحية تحثنا على المواظبة على الفرائض والنوافل، وعلى بر الوالدين وصلة الأقربين، وتغرس فينا الفضائل، وتنتقي لنا أطايب الكلام وجميل المقال، وتحقق سياسة التعليم وأهدافه وغايته.

وكانت الإذاعة الصباحية زاد الروح وغذاء العقل، نتسابق فيها للإلقاء، ونتدرب على قوة الخطاب وأجمل النشيد. ومما صقل مهارتنا وأبرز مواهبنا، الجمعيات الأسبوعية، حيث تختار كل طالبة الجمعية التي تناسبها، وهي تتنوع ما بين الإلقاء والخطابة، والتفصيل والخياطة، والأعمال الفنية، والاقتصاد المنزلي، وأنشطة المصلى والبرامج الدعوية.

في مثل هذه المحاضن الآمنة والمناشط الرائدة، التي كانت علناً لا سراً، وجهاراً نهاراً، وتحت إشراف ومتابعة دقيقة من التعليم، نشأت وتربت الأجيال على عقيدة واضحة، وفكر سليم ومنهج وسط معتدل بلا تطرف ولا غلو.

ولا أدعي العصمة لأرباب التعليم، ولا القداسة لقادة الثقافة في مدارسنا، ولكني على ثقة تامة بأن الإشراف والمتابعة الدائمة، لا تترك مجالاً لصاحب فكر منحرف، ولا من ساء دينه ومعتقده، مع وجود آلاف المصلحين ومئات الواعيين المخلصين.

ومما يؤسف له ويتألم القلب لمثله، أن يخرج علينا كتاب وكاتبات ممن رضع من التعليم، وتبوأ أعلى المناصب، ليرمي التعليم بالتهمة والمعلمين بالريبة والمناهج بالكدرة، فينادون بالتنظيف من القذارة والتطهير من النجاسة، ويشككون في وطنية المخلصين، ومشكلة هؤلاء الكتاب اجترار أفكار وتهم لا يوجد لها دليل إجرائي ملموس حول الاتهامات التي يطلقونها، وغاية أمرهم التهمة الجاهزة الإرهاب والغلو والتطرف والمنهج الخفي، ولو طلب منهم تعريف إجرائي لمصطلح المنهج الخفي ومفاهيمه لتلعثموا وتخبطوا، وأظنه لا يخفى على أصغر تلميذ أن أصحاب الفكر الضال والمنهج الخفي، يستترون خلف الاستراحات المشبوهة والأبواب المغلقة والقنوات الفاسدة، ولا يجرؤون على الظهور في صروح العلم المشيدة، بل هم ممن ترك مقاعد الدراسة وضاق بمناهج الاعتدال.

والعجيب أن من يلقي هذه التهم بصروح التعليم والجامعات، هم ممن تلقى تعليمه فيها ودرج في هذه المسالك، وقد يشترك هو وزميل آخر في البيئة التعليمية نفسها وربما الأسرية، فيهتدي ويضل صديقه، ويسمو ويسقط أخوه في دروب الغلو والتطرف، فمن السبب؟!

 فإن كان من أثر غلو وتطرف لمسوه وسكتوا عليه فهم شركاء في الإثم والجريمة؟!

فإما أنهم علموه وأخفوه فهم من الخائنين، أو ما علموه ولا لمسوه فهم من الكاذبين المفترين.

وأقول لهؤلاء المتهمين والمشككين: إلى من نعزو تهمة الإلحاد والإفساد، ولوثة العلمانية والليبرالية، وترويج المخدرات ومهربي الخمور، وملاك قنوات الفساد وإثارة الجنس، وحسابات مصدري الفجور والدعارة؟!!

فهل من الإنصاف والعدل اتهام دور التعليم والجامعات، وتبرئة ساحات القنوات المفسدة، ووسائل الإعلام المضللة، وزوار السفارات، وأصحاب الأجندات الخارجية، وممثلي الأحزاب الطائفية؟!

وهل من الحق اتهام أنشطة المصلى الإيمانية، بالمنهج الخفي والفكر الضال، وهي تقام في وضح النور وفي أسمى مكان، حيث يتذاكرون كلام الله ويتدارسونه بينهم، تحفهم الملائكة وتغشاهم الرحمة وتتنزل عليهم السكينة ويذكرهم الله في من عنده، وتبرأ ساحة المغنين والفنانين الداعين إلى الرذيلة والمزينين للمعصية؟!

وهل من الطهارة والنظافة اتهام المحاضرات والندوات العلمية التي يصرح لها رسمياً، بالتطرف والتكفير والعنف والفتنة، وهي وفق منهج أهل السنة والجماعة، ومما قال الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويترك الشعر الفاحش والبذيء، والروايات الهابطة والساقطة، وكتب الفكر الإلحادي؟!

أين من في قلبه ذرة غيرة على دينه، لمحاربة هذه المفسدات للدين والعقل والنفس والعرض؟

أين حماة الفكر ودعاة محاربة الإرهاب – زعماً – من حماية العقيدة والدفاع عن الفضيلة؟

أين أصحاب الأقلام الرنانة والمقالات المدبجة بمدح الغرب ومناهجه، والتغني بحضارته ومآثره، ممن التحق ببعض الجماعات المتطرفة من أبناء بلاد علمانية ومناهج حضارية ونظم كافرة، فهل تعليمهم سبب غلوهم ومناهجهم سبب تطرفهم ومناشطهم تزرع إرهابهم؟

يا بني قومنا، لا خير في عين لا تبصر الهدى، ولا في سمع لا يسمع الحق، ولا في فؤاد لا يعرف النور، الحق أبلج والباطل لجلج، ونور الشمس لا يحجبه غربال، التهمة رد على صاحبها، والنعمة دين على راعيها، فمن شكر النعمة، وأسدى لصاحب المعروف الجميل، ونصح بالحكمة والموعظة الحسنة، فقد أحسن وأفلح، ومن افترى وظلم، وتعدى وأساء، فالظلم ظلمات يوم القيامة، والجزاء من جنس العمل.

د.أميرة بنت علي الصاعدي

المشرفة العامة على مركز إسعاد

كلمات البحث
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook