الثلاثاء، 07 شوال 1445 ، 16 أبريل 2024

أعلن معنا

اتصل بنا

نظِّموا زواج الصغيرات.. ولكن!

أ أ
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook
   

هل يوجد أب أو أم محبان لابنتهما الصغيرة ويدفعان بها للزواج وهي في سن لا تؤهلها لتحمل مسؤولياته الجسدية والنفسية والاجْتِمَاعِيّة؟! لا أظن عاقلاً سيؤيد عملاً مثل هذا بالطبع، ولكن هناك حالات نسمع بها من وقت لآخر، يوافق فيها الولي على تزويج موليته وهي طفلة بشيخ طاعن في السن!

اضافة اعلان

وهنا يدور الجدل على موقفين، هل الفعل مقبول أم لا؟! ولأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فإن غالب من يعارض الأمْر يرى فيه انعدام التكافؤ بين الزوجين، وأنه من حق الفتاة أن تعيش حياتها الزوجية مع شاب قريب من عمرها، قادر على إسعادها وتحمل مشاق الحياة معه، وتكوين أسرة سعيدة وإنجاب ذرية صالحة. وهذا مطلب مشروع ومقبول، شَرْعَاً وعقلاً. أما غالب من يؤيد الأمْر (أو بالأصح يعارض تقييده) فهو يرى أن الشريعة لم تقيد الأمْر؛ وبالتَّالي لا يحق لنا تقييد الأمْر بالعموم، والحالات الخَاصَّة تقدر بقدرها. وهذا أَيْضَاً رأي مقبول شَرْعَاً وعقلاً!

إذن أين الخلاف؟!

ربما تكون نقطة بداية الخلاف قد نشأت بعدما صارت الاتفاقيات الدَّوْلِيَّة وسيلة ضغط على بعض الدول (وخَاصَّة على الدول الإسلامية، تحت مظلة ما يعرف بالدول النامية) للالتزام بالقوانين والتشريعات التي وضعتها الأمم المتحدة عبر هيئاتها المختلفة؛ بِدَعْوَى الارتقاء بصحة المرأة والطفل، ورفاهية المجتمعات وحقها في التعليم والمساواة، وغير ذلك. والواقع يشهد بأن تلك المطالبات - في غالبها - ليست منصفة ولا عادلة بين الشعوب، فما يطلب من المرأة المسلمة في باكستان لا تطالب به المرأة الهندوسية في الهند! كما أن ما يطلب من الحكومة الأفغانية حيال النساء المسلمات لا يطالب به لمسلمات ميانمار أو النساء الإيغور، مثلاً!

التسييس الواضح لهذه القضايا جعل بعض حكومات المنطقة الإسلامية وشعوبها لا ترحب بتلك المطالبات، وتشكك في صدق نوايا المطالبين بها. أما المتحمسون لها فقد يرون أن تلك المخاوف غير مبررة، أو أنهم يميلون بالفعل إلى تطبيق الرؤى العالمية على بلدانهم، ولو بأسلوب الضغط الأممي الذي تمارسه الأمم المتحدة وهيئاتها بطرق متنوعة.

إِضَافَةً إلى ذلك، فإن الاتفاقيات الدَّوْلِيَّة ليست حاكمة على الشريعة الإسلامية؛ ولذلك نرى في معظم الاتفاقيات التي توقع عليها بلادنا اشتراط التوافق مع الشريعة الإسلامية، أو عدم معارضتها. ومن أهم النقاط الجَدِيرة بالتوقف عندها أن مصطلح "قاصر" لديهم غير متفق مع المنظور الشرعي عند تناول تلك القضية. فالفتاة التي وصلت سن البلوغ بالتأكيد ليست قاصراً، لأنها مكلفة شرعاً. في حين أن الفتاة التي لم تصل سن البلوغ أو التكليف بعدُ هي من تعد قاصراً بالفعل.

الممارسات في بعض الدول التي تضغط في هذا الجانب تخالف ما تطالب غيرها به، ففي 27 ولاية أمريكية، لا يحدد القانون سناً أدنى للزواج! أما ما يمارس على أرض الواقع، فإن الإحصائيات تذكر أرقاماً لا تكاد تصدق، من شيوع زواج الأطفال الموثق رسمياً.

يعرف موقع (www.unchainedatlast.org) بنفسه بأنه منظمة غير ربحية أمريكية التي تخصصت في مساعدة النساء والفتيات في تجنب الزواج القسري أو الهروب منه، وإعادة بناء حياتهن. كما أنه المنظمة الوحيدة الأمْريكية التي تسعى لإحداث تغيير اجْتِمَاعِيّ وقانوني ونظامي لإنهاء الزواج القسري وزواج الأطفال في أمريكا. قامت هذه المنظمة بجمع بيانات عن الزواج في أمريكا، وتَوَصَّلَت إلى أن هناك على الأقل (167.000) طفل قد تزوجوا ما بين عامي 2000 و2010 في (38) ولاية. وقد كان معظمهن من الإناث، وبأعمار تصل أَحْيَانَاً إلى (12) سنة، وهؤلاء ارتبطن بأزواج - في معظم الحالات - بأعمار (18) عَامَاً أو أكبر!!!

أما بقية الولايات، بما فيها واشنطن العاصمة، فلم تتمكن من تقديم بيانات عن حالات زواج الأطفال في ذلك العقد. وبإجراء توقع ارتباطي إحصائي وَفْقَاً لعدد السكان في كل ولاية وحالات زواج الأطفال، فإنه يتوقع أن عدد الأطفال الذين تزوجوا في أمريكا في تلك الفترة قد بلغ (248.000) طفل!

تذكر صَحِيفَة (واشنطن بوست) أنه بالرغم من هذه الأرقام المفزعة، والآثار المترتبة على الزواج المبكر صحياً وتعليمياً واجْتِمَاعِيّاً، إلا أن ممثلي الجهات التشريعية في بعض الولايات رَفَضُوا تمرير تنظيمات لأنهاء زواج الأطفال. وقد كان السبب وراء ذلك خوفهم من أن مثل هذه الإِجْرَاءَات سوف تقيد الحريات الدينية!!!

بعض الدول الأوروبية تحدد عمر (18) كحد أدنى للزواج، ولكنها تعطي فرصة الاستثناء بعد موافقة الأبوين، كما هي الحال في فرنسا وبلجيكا وإسبانيا، وغيرها من الدول التي تتبع أنظمة متنوعة في تحديد السن الأدنى للزواج، وكَيْفِيَّة منح الاستثناءات في بعض الحالات.

بعد هذا كله، نعرف يقيناً أن الحالات النادرة التي تقع في بلداننا من زواج الصغيرات لا تستحق الضجيج الإعلامي، ولا الضغط الأممي من الأمم المتحدة وهيئاتها؛ لِأنَّ ما يمارس في دول الغرب (المتحضر) لا يختلف عما هو متبع في معظم دولنا الإسلامية، بل إنه في بعض الحالات قد يكون أسوأ بمراحل عديدة مما يمارس في حالات فردية أو معزولة عندنا هنا أو هناك في بعض المجتمعات. وحديثنا هنا طبعاً عن الزواج، أما العلاقات المحرمة، فالفوضى العارمة فيها، وإن أَدَّتْ إلى إنجاب أطفال لأمهات أطفال بدون زواج، لا تلقى اهتماماً مماثلاً!

بحسب تلك القوانين التي تسعى بعض المنظمات الدَّوْلِيَّة لفرضها على دول العالم، فإن اقتران فتاة عمرها (17) عَامَاً بشاب عمره (18) أو (19) عَامَاً - وإن كانا ناضجين وجاهزين للزواج - يعد زواجاً بقاصر!!! وتحت القوانين نفسها، لو انتظرت الفتاة سنة واحدة فقط، لأمكنها الزواج برجل عمره (80) عَامَاً دون قيود! مما يدل على أن مسألة التكافؤ العمري ليست محكاً في هذه القضية، بل هي مبرر لفرض تشريعات يمكن الضغط من خلالها على بعض الدول دون غيرها.

بالتأكيد، وجود جهة قضائية مستقلة تنظر في حالات زواج الفتيات الصغيرات لمن يفوقونهن في العمر بشكل لافت أمر إيجابي. بل إن تقديم رأي طبي ونفسي واجْتِمَاعِيّ للأسرة قبل الموافقة على إجراء النكاح يساعد في رفع مستويات التوافق بين الزوجين. كما أنه من المهم أن يسعى أهل الخير والجمعيات الخيرية إلى تقصي أسْبَاب موافقة بعض الأولياء على تزوج بناتهم الصغيرات من كبار في السن عند وجود شك في أن الدافع اقتصادي، ربما لأن الولي محتاج للمال، أو يُعَانِي وأسرته الفقر والحاجة.

النظر الشامل للقضايا الحساسة، وإعطاء حلول متكاملة، تتوافق مع مقاصد الشريعة سوف يرضي كل من يبتغي رضا الله تعالى، ويسعى لحماية مصالح الناس بمختلف فئاتهم من الاستغلال القهري، سواء كان سلطوياً، أو مادياً، أو اجْتِمَاعِيّاً، أو نفسياً. ولكن، ينبغي الحذر ممن يصطادون في الماء العكر، ويستغلون ممارسات خاطئة محدودة ليجعلوها الأصل الذي ينبغي أن تصاغ التنظيمات وَفْقَاً لها. فالنظر إلى المصالح الكبرى لا يمنع التوقف عند الحالات الخَاصَّة، والنظر إليها بشكل استثنائي، أو حتى وضع تنظيمات سائغة شَرْعَاً وعقلاً، بما يحقق مصالح الناس كلهم.

د. محمد بن عبدالعزيز الشريم

@mshraim

كلمات البحث
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook