الثلاثاء، 09 رمضان 1445 ، 19 مارس 2024

أعلن معنا

اتصل بنا

الهوية والمجتمعات المدنية

أ أ
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook
 

في مجتمعات المدنية الحديثة كثيراً ما تختل معاني الهوية، ويفقد أفراد كثيرون انتماءهم الاجتماعي من سكان المدن الكبرى ذات الطابع الحضاري المعاصر، وربما تختفي الهوية تحت مشاعر الاندماج في الحياة المعاصرة، والأفراد الذين تضطرب لديهم معاني الهوية يتجه انتماؤهم الحضاري إلى مكونات الحياة اليومية، وطريقة الحياة المعيشية التي اكتست معالمها باندماجها في استهلاك المنتج الحضاري الذي يستولي على الشعور النفسي كما يستولي على التفكير العقلي؛ ذلك أنَّ المدنية الحديثة ليس لديها شيء مقدس سوى المعطيات الحضارية من اكتشافات، واستثمارات، وإنتاجية مالية، وصناعية، أو ما يحصل عليه الفرد من متعة خاصة يشعر معها بتحقيق رغباته، وتحقيق ذاته، وهي معطيات تقدم للناس نفسها ومصدرها على أنها سبب السعادة الإنسانية، وإذا كان الإنسان المعاصر يعيش حياة البحث عن السعادة بوسائل مختلفة، فإن وسائل المعيشة الحديثة المبنية على المنتج الحضاري ستتحكم في مشاعره حين يكون الهدف المادي هو الذي ينتظم إيقاع الحياة اليومية، ويحقق له الشعور بالسعادة والمتعة.

اضافة اعلان

لم تفلح المجتمعات الصناعية في استعادة الإنسان الاجتماعي، الذي يراقب مجموعة القيم العليا ذات الطابع الأخلاقي، إنما تمضي تلك المجتمعات قُدماً في إنتاج نماذج بشرية تتعايش بقدر ما تحقق من مصالح شخصية أو مصالح مشتركة. لذلك فإن صلة الإنسان بمجتمعه إنما هي في ما يحققه منها بأي طريق كان تحقيق أحدهما، وتلك هي التي تشكل في أفراد المجتمع الصناعي تفكيرهم وعواطفهم واتجاهاتهم بطريقة آلية، ويكتسب علاقاته الاجتماعية من وراء ذلك كله، فمعظم مكونات المجتمعات المعاصرة بحضارتها الجميلة إنما هم أناس لا يعنيهم شيء من تدين أو سياسة أو قيم إنسانية عليا، بل اتجه الإنسان لفهم الإنسانية حوله على أنها تتكون من أفراد لهم حقوق مادية يجب أن يحفظها لهم لكي يحفظوا له مثلها.

لذلك يظهر في المجتمعات المدنية مفاهيم جديدة يقدسها الإنسان لا ترتبط بالمثالية الحقيقية، وليس لها مرجعية، ونماذج الشخصيات المؤثرة ليست هي الشخصيات التي ترجع ثقافتها إلى الهوية الأصلية لأفراد المجتمع، بل تتأثر قيم الأفراد بشخصيات مرتبطة بآلية الحياة المدنية وحركتها المعيشية التي ينهمكون في استهلاكها، وتلك الشخصيات لا تقدم للمجتمعات قيماً عليا، إنما تقدم أنواعاً من المتعة الفردية التي تستهلك جزءاً يسيراً من الزمن العُمريّ، ولكنها تتمدد داخل مساحة كبيرة من الزمن العقليّ، وما يقدمه هو في الحقيقة تعزيز لقيم الإنسان الفرد، الذي يفتتح لنفسه الحرية بمعناها الواسع، ليكون الإنسان هو الذات التي تدور حول نفسها، فهناك تتشكل قيم جديدة داخل مجتمع المدنية، وتتعدد اتجاهات الفرد وميوله لتلك القيم ذات الطابع الفردي في سلوكها، والانتماء لنواتج الحضارة الصناعية في مشاعرها.

وكذلك يظهر في المجتمعات الصناعية المعاصرة الهوية الثنائية، ويكون الأفراد المنحازون للحرية الفردية أكثر المنتمين لتلك الثنائية، وهي مشكلة حضارية تنمو داخل المجتمعات، وتشكل كتلاً اجتماعية ذات اتجاه مخالف للطابع الاجتماعي، وفي تلك المجتمعات كثيراً ما يعاني الأفراد من مشكلات اجتماعية، وسلبيات نفسية سرعان ما تؤدي بهم إلى تغييرات سلوكية بسبب ثنائية الهوية، أو الهوية غير المنتمية للمجتمع، وليس بغريب أن يتحول الأفراد في سلوكهم الأخلاقي وتجاربهم الشخصية، إلى شخصيات مخالفة للقانون الاجتماعي السليم، كتلك التي حدثت في أمريكا من الانجراف الجماعي وراء "المثلية".

ولذلك تبحث تلك الكتل الاجتماعية عن تعزيز هويتها الجديدة المخالفة وتحقيق شرعيتها، وقد رأينا كيف استطاعت في أمريكا الحصول على شرعية انحرافها، برغم مخالفتها لقوانين المجتمع السوي، وما ذاك إلا نوع من تعزيز الهوية الجديدة وتثبيتها، بعد فقدان الهوية الاجتماعية الأصلية، وتفكك مكوناتها داخل مجتمع الحياة المدنية المعاصرة؛ إذ كانت من قبل تشعر فيه بالاختلاف، وبذلك تصبح تلك الهوية الجديدة نسيجاً خاصاً موازياً للهوية الأصلية، وربما اجتذبت لها أعداداً كثيرة لم تكن تنتمي لها من قبل بسبب تقنين هويتها، ولعلها يوماً ما تصبح هي الهوية الغالبة على المجتمع الذي كانت متخفية داخله، وكانت تشعر فيه بالعزلة والضعف.

كلمات البحث
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook