الثلاثاء، 07 شوال 1445 ، 16 أبريل 2024

أعلن معنا

اتصل بنا

قانون التحرش.. وخيبة الحشد

أ أ
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook
 

خمسة أسئلة تبادرت إلى ذهني وأنا أتابع جدل (قانون التحرش) المتجدد في الشبكات الاجتماعية في السعودية، ومع هذه (الأسئلة) ثمة (خيبة أمل) تُلقي بظلالها على كامل المشهد، تقتات على جلد المنصفين، وتنهش في عزم العارفين، وتفتك ما بقي من أمل المتفائلين، وقبل أن تعصف بي هذه الخيبة مرة أخرى -بعد أن تسببت في تأخير كتابة هذا المقال-، دعونا نبتدئ الإشكالات الخمس لعلها تكون أرضية مشتركة تجمع المختلفين وتوحِّد الصف على بينة نستدرك فيها ما تبقى من مكتسبات.

اضافة اعلان

أول هذه الإشكالات هي (دور الإعلام في معالجة القضايا الاجتماعية)، وهذا الإشكال شغل الكثيرين من متخصصي الإعلام لكني أجد أكثر الأطروحات تماسكاً هي ما أورده كل من: دانهيو وتتشنر واولين (Donohue، Tichenor and Olien، 1995)، والذين حصروها في ثلاثة أدوار ما يهمنا فيها هو (دور الرقابة سواء للأفراد في المجتمع أو للمؤسسات وذلك بغرض التقويم والتوجيه)، ومنها انبثق مفهوم السلطة الرابعة.

وثاني هذه الإشكالات هو (الدور الذي تفرد به الإعلام الجديد)، والتي يعتبر البعض حجر الزاوية فيه هو ما يتركز في (استراتيجية حشد الجماهير -crowdsourcing-)، والتي نقصد بها هنا القدرة على (تعبئة الناس بشكل سريع لمواجهة التحديات في حالات الأزمات)، وتتركز قوة الشبكات الاجتماعية في هذا الدور والذي تثبته التجربة ويؤكده أوراق عمل اشتركت فيها عدة جهات علمية متخصصة مثل معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، والمؤسسة الوطنية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في أستراليا، ومعهد مصدر الإماراتي، وجامعة كارلوس الثالث في مدريد.

وبالحشد ترتبط الإشكالية الثالثة وهي( دور النخب من المصلحين في توظيف قوة الشبكات الاجتماعية لحشد الجماهير) على المطالبة بحلول علمية محددة، ولا يقبل من النخب الفكرية المتواجدة في الشبكات الاجتماعية أن تمارس دور الصامت أو تتحول لوكالة إخبارية تنقل الأخبار، بل ينتظر منهم أن يكون نشر المعلومات عندهم حين وقوع الأزمة بطريقة مخططة لتشكل ثقافة الأفراد المتأثرين معرفيا، ومن ثم توجيه سلوكهم لأنفع الحلول في حل الأزمة، ويكون ذلك بعد امتلاك تصور كامل قابل للتطبيق، وليس عناوين رنانة ومبادئ تنظيرية.

ومع ردة الفعل المحيرة للنخب فيما يتعلق بـ(قانون التحرش) ننتقل للحديث عن الإشكالية الرابعة وهي (حساسية قضية المرأة في المجتمع السعودي) والتي باتت جراحها جسورا لكل عابر، وما عاد لمن يريد الحديث عن قضاياها إلا أن يطلق لأنامله العنان لتنهمر التغريدات والتدوينات، وهو فعل نقبله من كل متعجل جاهل لكن لا نقبله من نُخب أمضت عمرها تُنَظِّر وتحلل، فقضية المرأة السعودية في الفترة الحالية بين (مطرقة العولمة الثقافية والذوبان الحضاري) الذي يتعامل معها كمفتاح تغيير مجتمعي لا أكثر، وسندان (سطوة معارك التيارات) الذي نتج عنه تصورات لمشكلاتها تُظهر الواقع بحسب ما يراه الأطراف التي يعميها الصراع لا بحسب الحقيقة الفعلية له، وللأسف أن القيادات الدينية في الآونة الأخيرة غيبت هذين البعدين المؤثرين فنشأ عن ذلك خلل مريع في المعالجة، لتبقى المرأة هي الخاسر الوحيد من كل هذا.

ويبرز (خطر تذبذب دور النخب المتزنة)، كإشكالية خامسة وأخيرة، فلطالما حذرنا من الرفض لمجرد الرفض دون امتلاك المبررات الكافية والأخطر حشد الناس على ذلك وإن كنا لا ننكر حقيقة ما أورده (غوستاف لوبون) في كتابه (سيكولوجية الجماهير) عن ميل الجماهير للرفض أو القبول من دون أن تتحمل مناقشة التفاصيل، والاندفاع العاطفي العنيف في تبنيها ما يورده قياداتها الفكرية، لكن الرهان لا يكون على عاطفة الجماهير بل على وعيها، ولا على كثرة الأتباع بل على استقلاليته، فليس المقلد كالعالم، وخاصة مع سطوة العولمة وتسطيح الشبكات الاجتماعية لما يطرح فيها.

ومع السرد السابق لتلك الإشكالات سنعيدها بما ينظمها في عقد واحد بعد تنزيلها على مطالبات قانون التحرش، فبعد نشر بضعة مقاطع عن حالات تحرش لم تتجاوز 7 حالات - ثلاثة منها باستفزاز من الطرف الآخر-، اندفع بعض النخب في (انتقاد دور الجهات في حماية الضحايا) ولا بأس في ذلك كونه الدور الذي نراهن عليه للإعلام لكن المشكلة أن النخب انتقدت دون امتلاك خلفية عن المؤسسات الحكومية المسؤولة ودورها، والإجراءات التي يتم اتخاذها وتحديد مكمن الخلل فيها، فخرج النقد خديجاً مشوهاً، اتهم الجهات بالتقصير ولم يوضح كنه!

وفيما يتعلق باستراتيجية الحشد وتوظيف النخب لها، فقد حدث ما لا أتردد في تسميته كارثة، فقد اندفع بعضهم في حشد الناس على (تأييد قانون التحرش) دون أن يقدم مقترح لقانون أو حتى يمتلك تصور عن معركة استمرت قرابة ستة أعوام حول ما سمي بـمسودة (قانون التحرش) والذي بدأت في أوائل عام 2009، على خلفية صراع أيدلوجي فكري بين التيارات، وقد ضمت تلك المسودة ست مواد – أقول مواد تجوزا وإلا فهي لا ترقى لتسميتها بذلك لما فيها من تناقضات-، ونشرتها بعض الصحف ورفض عضو الشورى الدكتور صدقة فاضل آنذاك أن يعتبرها (مسودة قانون) وإنما اعتبرها (بضعة بنود) يمكن دمجها في نظام الحماية من الإيذاء المقدم من وزارة الشؤون الاجتماعية– وهو تطوير لنظام مقدم من جمعية الملك خالد الخيرية- ويعد أكثر نضوجا من تلك المسودة، وصدر نظام الحماية من الإيذاء في أواخر عام 2013 دون أن يورد البنود الهشة لمقترح التحرش والتي تعد تحايلا على نظام العمل، مما اعتبره مؤيدو مقترح قانون التحرش (هزيمة مدوية لهم في معركتهم الأيدلوجية) آنذاك والتي لا تتعلق بـ(حماية المرأة) بقدر ما تتعلق بـ(بيئة عملها) بدليل أن خمسة من تلك البنود الستة تحدث عن التحرش في بيئة العمل!

وفي هذا الإطار يجب أن نمتلك الشجاعة العلمية التي تجعلنا نُقِر أن أصحاب تلك الأدلجة نجحوا في الاستعانة باستراتيجية الحشد وجر المجتمع في لعبة قذرة للضغط على خبراء الأنظمة والمتخصصين في مجلس الشورى، بل واستنفروا حتى معارضيهم لتأييدهم في معركتهم، بدليل أن أول مقطع من مقاطع التحرش والمتعلق بالتحرش بفتيات في مجمع الظهران في المنطقة الشرقية في السعودية تم نشره في شهر أكتوبر 2013 وهو نفس الشهر الذي صدر فيه نظام الحماية من الإيذاء! بل في حتى نفس الأسبوع! ويظهر أن لعبة المقاطع التي كان بعضها نشر بعد وقوعها بشهر مثل حادثة طفلة المصعد، يظهر أن اللعبة كانت تسعى في بدايتها لكسب معركة أخرى تتعلق باللائحة التنفيذية لنظام الحماية من الإيذاء، والتي لم تعجب بعضهم فارتأى مواصلة اللعبة على فترات محددة فقد قمت مع ظهور أول مقطع بالتعاون مع مرصد مختص بقضايا المرأة ورصدت من عشرين مقال في أسبوع واحد تحمل أفكارا موحدة عن قانون التحرش، واستمرت المقالات بنفس التدفق في المقاطع التي تلتها والتي نشرت بطريقة منظمة لإشغال الرأي العام وحشد الناس، واجتمع معها إعداد أكثر احترافية للحشد في الشبكات باستراتيجيات إعلانية قوية لا يشك فيها أي خبير في تنظيم الحملات، وتكررت اللعبة حتى تجاوزت المقالات 200 مقال إلى أن وصلت إلى مقطع (تحرش بفتاتين في كورنيش جدة)، الذي شهد (تذبذب النخب الدينية) للأسف، وما أن قام بعض الشبان بنشر مقاطع أخرى تؤكد أن الفتيات هن من استفززن الشبان، حتى بادر مؤيدو قانون التحرش بنشر مقطع لفتاة محتشمة في الطائف لئلا يخسروا تأييد الرأي العام! في تلاعب لا يحتاج مزيد ذكاء لفهمه، لتستمر لعبة الحشد وتهييج الناس في صالح معارك فكرية فارغة تعزف إلى جراح المرأة ولا تداويها.

وفيما يتعلق بإشكالية قضية المرأة، فلا أظن أن هناك شريحة عانت بمثل معاناة النساء في بلدنا ففي حين كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلنها صريحة (إني أحرج عليكم حق الضعيفَين اليتيم والمرأة)، إلا أن الكثير من الحلول تم تعطيلها ارتهاناً لصراعات مستديمة بين التيارات، ولم تكن الإشكالية في الطرف الذي يصر على تطبيق حلول معلبة جاءت بها اتفاقيات دولية تضرب بالمنظومة الثقافية والحضارية عرض الحائط ولا بمحاولتهم إظهار الخلافات في صورة فقهية بعيداً عن حقيقتها الفكرية، ولا بتحويل المرأة إلى رقم في الاقتصاد في تجريد لها من إنسانيتها لتكون رقيقا في سوق رجال المال والأعمال، بل كان الإشكال في تخاذل المصلحين المؤمنين بإمكانية تقنين أوامر الشريعة في أنظمة واضحة جلية وتقديمها كمبادرات لحلول جذرية - بمثل المحاولة التي قدمتها جمعية الملك خالد - لحلول تنقذ النساء من جريرة الظلم وسلب الحقوق، وإن كانت تلك النخب قد تحركت جزئياً قبل قرابة خمسة أعوام في بعض المؤتمرات والندوات لكنه ما زال حراكاً ضعيفاً ومن جهات محددة بالمقارنة بالحراك المجنون الذي تقوده أطراف أخرى تدعي نصرة المرأة وكل يدعي وصلاً لليلى.

وحول الإشكالية الأخيرة فقد نتقبل عدم استغلال النخب الفكرية من المصلحين وخاصة القيادات الدينية لإمكانية الحشد، خاصة أن هذه النخب أقصيت زمنا عن الإعلام، لكن ما لا نتقبله هو تذبذب مواقفهم في طريقة المعالجة، وهي الإشكالية المرعبة التي عكست جانبين: جانباً مظلماً جعلنا نتراجع عن التعويل على تلك القيادات التي مانعت فترة ثم أرخت رأسها ورضخت لحملات إعلامية تمتهن الضجيج دون أن تمتلك رؤية واضحة تحشد الناس عليها! وجانباً مشرقاً في أن تلك القيادات قررت أن تراجع خطابها في معالجة القضايا بعيداً عن ترف الجدل التنظيري وهذا جانب جعلنا نخفف من تراجعنا في انتظار مبادرات واعية لحلول عملية لا تنظيرية.

وأجدني للمرة الأولى في حياتي..

أختم مقالاً وأنا لا أمتلك صورة واضحة عن المستقبل الذي ينتظر الأجيال في القضية التي يناقشها!

هل سيتحرك المصلحون الصادقون الذين لم يتصدروا إلا حرصاً على المجتمع.. لحماية المستضعفات من النساء؟ لا أدري!

هل سنشهد مؤتمرات وندوات تضع قواعد لتحول متزن في خطاب معالجة قضايا المرأة برؤية قيمية متجردة عن هوى الصراعات؟ لا أدري!

هل سيعمد مجلس الشورى إلى استراتيجيات إعلامية تحمي الناس من التضليل؟ لا أدري!

هل سيستمر التلاعب بالرأي العام متخذا من العزف إلى جراح النساء وسيلة له؟ لا أدري!!

لكن الشيء الوحيد الذي أدريه.. أن من توكل على الله كفاه

اللهم لا تكل النساء لغيرك طرفة عين أو أقل من ذلك..

اللهم لا تكل النساء لغيرك طرفة عين أو أقل من ذلك..

اللهم لاتكل النساء لغيرك طرفة عين أو أقل من ذلك..

addtoany link whatsapp telegram twitter facebook