الجمعة، 10 شوال 1445 ، 19 أبريل 2024

أعلن معنا

اتصل بنا

نحو تأسيس منهجية لدراسة التراث الإسلامي

أ أ
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook
إن الناظر والقارئ في الثقافة العربية التي تغزو العقول الإسلامية منذ عقود من الحراك الفكري يلاحظ أن البوصلة البحثية من الاتجاهات الدخيلة على المسلمين تحولة من الرفض المباشر لتعاليم الدين الحاضرة إلى التنقيب والتخريب في داخل التراث نفسه , بمعنى أن الباحث العلماني والحادثي صار يتعارك ويكيل التهم للصحابة والشافعي وأحمد.. وبالمقابل صار يغدق المدائح للفلاسفة ولابن عربي والحلاج .. وصرنا نرى كذلك من يتخوض في علوم القرآن وعلوم اللغة وعلوم الفقه وأصوله وعلوم السنة ومواقف أهل السنة من الفرق الضالة .. ويوظف ذلك كله حسب ما يمليه عليه فكره المادي ويبرمجه مع ما يتوافق مع هواه الفلسفي الإيدلوجي . وربما نكون غير منصفين أن قلنا بأن ذلك هو جهده الشخصي , إذ القضية وما فيه استنساخ الأفكار والآراء الاستشراقية الغربية وإعادة تشكيلها. وقد أقر بذلك د.محمد الجابري وقال: (وأما الليبرالي العربي يقرأ التراث قراءة أوربية النزعة ولذا فهو لا يرى إلا ما يراه الأوربي فهي إذن قراءة اسشراقية.. أما الماركسيون العرب ينطلقون من المادية الجدلية كأيدلوجية قائمة يريدون أن يفرضوا على التراث الإسلامي قضاياها).<1> ومن هنا نتدرك خطورة هذه المرحلة من الغزو الفكري لعقول المسلمين عندما يتكلم مخالفي بالأدوات والعلوم التي اتكلم به فيلبس الحق بالباطل والصواب بالفاسد , ويعبث بالضرورات العقدية و وبمحكمات النصوص الشرعية وبالإجماعات وبالحقائق التاريخية بحجّة التجديد والنقد والفهم الثاقب غير المسبوق له . يقول أستاذ الثقافة الإسلامية د. عبدالرحمن الزنيدي: (لقد أصبح الاهتمام بالتراث في الآونة الأخيرة مرتعا خصبا للظهور ماديا أو أدبيا فصار يجوس خلاله ويفسر نتاجه اناس يفقدون المؤهلات الشرعية والمنطقية لدراسته مما يجعلهم ينحرفون به إلى غايات ذاتية تشوه صورته من جهة وتبلبل فكر الأمة من جهة أخرى مما يحفز إلى الاهتمام به وإنقاذه من الغزو الفكري الذي تجاوز حاضر الأمة إلى تراثها).<2> ونلحظ أن هذا الغزو قد تحركت وانتظمت الجهود في مواجهته عبر اتجاهين بارزين في الكتابات الفكرية: الاتجاه الأول: أسلمة المعرفة كخيار منطقي لإنجاز العلم الكوني الأروبي والنظريات والكشوفات الغربية القائمة على تصورات عن الوجود والإنسان والكون ربطها الغربيون بعلومهم الطبيعة والتجربية دون أن يكون للعلم فيها رأي!! فهذا الاتجاه يهدف إلى بناء العلوم على التصورات و المفاهيم الإسلامية. الاتجاه الثاني: نقد العقائد والأفكار المنحرفة التي وفدت على المسلمين وفق دارسة الأطوار التاريخية لنشأتها وابرز المدارس والمناهج فيها وارباب تلك الأفكار والظواهر المستشرية فيها وعرضها على النصوص . ويوجد هناك كتابات رصينة تهتهم بصناعة المنهجية الإسلامية من كتب التراث بالدرجة الأولى وتتناول القضايا المطروحة في الساحات الفكرية ولكنها لم تنتظم في اتجاه بارز مستقل , ولم تقوم مؤسسة علمية في تبنيها ورسم الخريطة للعمل لها , رغم المنداه بضرورة أسلمة المناهج ومع أن المنهجية الإسلامية هي الأساس الذي يبنى عليه اتجاه أسلمة العلوم ونقد الأفكار الوافدة يقول د. عبدالحميد أبو سليمان وهو أحد مفكري أسلمة المعرفة: (إن إسلامية المعرفة وإسلامية العلوم الاجتماعية لا تتحقق إلا إذا تم تنقية النصوص الإسلامية من الشوائب التي لحقتها ...وكذلك يجب توفير الدراسات التاريخية واللغوية التي تصنع النص في صورته الصحيحة وبشكل علمي منهجي وموثق).<3> ولأن كان مشروع الإحياء التراثي في القرن السابع والثامن أسس نواته فرد واحد من هذه الأمة: شيخ الإسلام ابن تيمية, فإن مشروع الإحياء المعاصر للتراث لا بد أن تتبناه مؤسسات علمية ومراكز بحثية ؛ إذ أن ضخامة المشاريع العلمانية والإستشراقية والحداثية من جهة و طبيعة التطور والتعقيد الحضاري من جهة أخرى يفرض على المصلحين هذه الوسيلة ويتطلب منهم تظافر الجهود وتكاتف العقول .وهذا يقودنا إلى بيان عنصرين رئيسين في عملية مشروع المنهجية لأحياء التراث وهما: 1/ الخبرة الواسع في التراث الاسلامي وأنواع العلوم الإسلامية . وقد شهد التراث حركة بعث تجسدت في الطباعة والنشر للكتب وفي التحقيق للمخطوطات والدراسات الموضوعية ؛ فمن المنطق البناء عليها والانطلاق منها ؛ فهي مادة جاهزة تحتاج إلى معالجة وصياغة. 2/ الاطلاع الواسع والمعرفة الشاملة بنتاج المذاهب الفكرية والمناهج الحديثية ؛ والمكتبة الإسلامية مليئة بذلك وإن كانت تحتاج إلى المزيد. وفي تقديري بأن هذا المشروع التراثي للمنهجية من المفترض أن يمتاز بخصائص عامة تحدد معالمه : الأولى : شمول المنهجية لجميع أقسام وأنواع التراث الإسلامي وفق إطار موحد , ولعل أفضل نموذج لبيان التداخل العلمي في العلوم الإسلامية هو المنهج الأصولي المتمثل في أصول الفقه فهو عبارة عن نسيج متكامل من الآليات والأدوات التي وقع استمدادها من علوم كثير.<4> فاستلهام منهجية موحدة على غرار من المنهج الأصولي سيجدد ويحيي التراث ويقربه . يقول د. عبد الحميد العلمي: (إننا بحاجة اليوم إلى صياغة منهج استقرائي يجمع بين دقة المحدثين وصناعة الأصوليين وحذق المفسرين يخولنا إمكان حماية تراثنا من كل دخيل ؛ فلقد وضع هؤلاء في أعمالهم ركائز راسخة للنظر إلى النص في إطاره التاريخي واللغوي، وفي سياقه الدلالي ..).<5> الثانية : العناية بمتانة المادة من حيث تقييم خبراء التراث المتكنين من علماء الشريعة بكافة علومها وعلماء اللغة بجميع فنونها, وتحقيق أصول السلف الصالح والسير على خطاها من أهم ما يُسعى إليه , ويُقصد من وراء صناعة المنهجية . الثالثة : التمييز في هوية المنهج , فالنتائج التي جنيت من وراء صهر المنهجية الإسلامية في الفكر اليوناني عبر دخن المناهج الفلسفية والكلامية في القرون الماضية لا زل أثرها باقيا في تقوض جملة من العقائد والأصول القرآنية والنبوية , وفي العصر الحاضر استجلبت المناهج القديمة واستقدمت مناهج التأويل الغربية فاصبح من الضرورة تمييز الهوية المنهجية لتراثنا. الرابعة : انطلاقها من معالجة إشكاليات الواقع المثارة في التراث الإسلامي من قبل المذاهب الفكرية الحادثة , فمشروع المنهجية مع ارتكازه على تحصين قضايا العقيدة والهوية والعلوم المعيارية التي تحفظ الفكر من الانزلاق , من المصلحة أن يبنى على علاج إشكالات الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي وشتى مجالات النهضة الإسلامية ,إذ مواضيع النهضة تشغل حيز اهتمام شرائح واسعة في المجتمعات الإسلامية وبيان منهجا يحدد الموقف الشرعي من ذلك من المتطلبات الواقعية الملحة , وتراثنا لم ينعزل عن الواقع في مسائله ودلائله في ماضيه بل هو غالبا يتأثر به ويفهمه ثم يؤثر فيه والأمثلة لذلك عديدة. الخامسة : جودة الصياغة الفنية من جهة وضوح العبارة وفصاحتها العربية وثبات مصطلحها وجاذبيتها الثقافية وتداوله بين الناس ؛ فإنك تجد فئام من الشباب المطلع للثقافة والمعرفة يغتر ببعض الكتابات التي تتضمن مناهج مختلّة عقديا وشرعيا بسبب الجاذبية والزينة الفنية لها . إن إنتاج مشروع بهذه الموصفات من شأنه ـ بعد توفيق الله ـ أن يعمق مركزية نصوص الكتاب والسنة في النفوس المؤمنة , ومن شأنه إعادة منهجية السلف الصالح إلى المشهد الثقافي والفكري ويظهر للعقلاء بأنه منهج متماسك متناسق بمقدرته سيادة المشهد وقيادة الفكر إلى بر الأمان والرقي. الهوامش: <1> انظر: نحن والتراث محمد الجابري 12 بواسطة السلفية وقضايا العصر 330. <2> السلفية وقضايا العصر عبدالرحمن الزنيدي 314. <3> قضية المنهجية في الفكر الإسلامي 33-34. <4> تجديد المنهج في تقويم التراث طه عبدالرحمن 125 نقلا عن مناهج الفكر العربي في دراسة قضايا العقيدة والتراث 207. <5> ورقة في ندوة "نحو منهجية للتعامل مع التراث الإسلامي". اضافة اعلان
كلمات البحث
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook