الجمعة، 10 شوال 1445 ، 19 أبريل 2024

أعلن معنا

اتصل بنا

الطائفية بين تلاعبات السياسة وتوظيفات الفتنة

أ أ
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook

تحدثت في مقال سابق عن مشكلة الفكر السياسي الطائفي، وفرقت بين الطائفية كمكون اجتماعي، والطائفية كفكر سياسي، وانتهينا إلى أن الطائفة، كظاهرة اجتماعية، عامل إيجابي، ولا تحدث من جرائه مشكلات سياسية أو اجتماعية، ولكن المشكلة - بالأساس - تكمن في "الطائفية السياسية". وحينما نستعرض السيرة النبوية، سنجد المعالجة الدقيقة لهذا الأمر، والتفرقة الواضحة بين "الطائفية كمكون اجتماعي"، و"الفكر السياسي الطائفي".. فمنذ اللحظة الأولى، لم تكن هناك مشكلة في أن تضم الدولة الإسلامية بين طياتها الأوس والخزرج.. المهاجرين والأنصار.. العرب واليهود.. فكل هذه طوائف عرقية ودينية، تسعهم الدولة الإسلامية، ولا تعارض تمايزهم كطوائف اجتماعية، في داخل الدولة الواحدة. فالوثيقة التي وضعت أسس الدولة، جاء فيه النص على اليهود، باعتبارهم جزءاً من الدولة الإسلامية الوليدة، فجاء فيها نصاً: "لليهود دينهم وللمسلمين دينهم - مواليهم وأنفسهم - إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ (يهلك) إلا نفسه، وأهل بيته. وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد. وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم، وأنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وأن النصر للمظلوم". الوثيقة - هنا - تتحدث عن اليهود كطائفة دينية، صحيح أنها مخالفة في الدين، ولكن يمكن احتواؤها في إطار الدولة الإسلامية، بصفتها تلك... ولكن لما تمايزت كطائفة سياسية، وبدأت في الكيد للمسلمين، واستحضرت الفكر السياسي الطائفي، بالتحالف مع أعداء الدولة، أجلاهم - النبي صلى الله عليه وسلم - عن المدينة؛ لأنهم سيصبحون عندها أشد خطراً على الأمة والدولة، ولن يصلح اندماجهم كمكون اجتماعي داخل الدولة. الأمر ذاته تكرر مع المسلمين، خاصة قبيلتي الأوس والخرج، كانت قبيلة الخزرج تفوق الأوس عدداً، لكن المشكلة الكبرى التي واجهت الرسول - صلى الله عليه وسلم - هي أن العلاقة بين القبيلتين كانت في منتهى الشراسة قبل الإسلام، والحرب التي قامت بينهم حرب مشهورة جداً في التاريخ، إنها حرب "بُعاث"، وكانت قبل بيعة العقبة الأولى بسنتين فقط، فأصلح بينهم النبي - صلى الله عليه وسلم - مقراً على الطائفة والقبيلة، كظاهرة تاريخية واجتماعية، لا يمكن تجاوزها. والأمر نفسه تكرر مع المهاجرين والأنصار، وذكرهم القرآن الكريم بهذه الأوصاف، قال في سورة الحشر: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ* وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:8, 9]. هذا باعتبارهم طوائف اجتماعية، ولكن لما دخلت الطائفية السياسية، كان الأمر، على غير ذلك، حيث جاء في صحيح البخاري: "أن رجلين من المهاجرين والأنصار تشاجرا فَقَالَ الأَنْصَارِي يَا لَلأَنْصَارِ. وَقَالَ الْمُهَاجِرِي يَا لَلْمُهَاجِرِينَ. فَسَمِعَ ذَاكَ رَسُولُ اللَّه (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: مَا بَالُ دَعْوَى جَاهِلِيَّةٍ. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ. فَقَالَ: دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ". فالآيات تتنزل على طوائف اجتماعية، ودَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ، التي قالها النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) تتنزل على الطائفية، والفكر السياسي... إن حل المسألة الطائفية، في المنهج النبوي، لم يتمثّل في إلغاء الطوائف، ولا بتجاهل وجودها، وإنما تمثّل في الاعتراف بوجودها، ومعتقداتها، وإخراج الطوائف من حيّز تلاعبات السياسة، وتوظيفات الفتنة.

اضافة اعلان
كلمات البحث
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook